و ( استغنى ) جعل مقابلا ل ( اتقى ) فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمر الله ودعوته لأن المصر على الكفر المعرض عن الدعوة يعد نفسه غنيا عن الله مكتفيا بولاية الأصنام وقومه فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل سين استجاب بمعنى أجاب . وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال فتكون السين والتاء للطلب وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين .
والحسنى : تأنيث الأحسن فهي بالأصالة صفة لموصوف مقدر وتأنيثها مشعر بأن موصوفها المقدر يعتبر مؤنث الفظ ويحتمل أمورا كثيرة مثل المثوبة أو النصر أو العدة أو العاقبة .
وقد يصير هذا الوصف علما بالغلبة فقيل : الحسنى الجنة وقيل : كلمة الشهادة وقيل : الصلاة وقيل الزكاة . وعلى الوجوه كلها فالتصديق بها الاعتراف بوقوعها ويكنى به عن الرغبة في تحصيلها .
وحاصل الاحتمالات يحوم حول التصديق بوعد الله بما هو حسن من مثوبة أو نصر أو إخلاف ما تلف فيرجع هذا التصديق إلى الإيمان .
ويتضمن أنه يعمل الأعمال التي يحصل بها الفوز بالحسنى .
ولذلك قوبل في الشق الآخر بقوله ( وكذب بالحسنى ) .
والتيسير : جعل شيء يسير الحصول ومفعول فعل التيسير هو الشيء الصعب لأجله وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر كما في قوله تعالى ( ويسر لي أمري ) وقوله ( ولقد يسرنا القرآن للذكر ) .
واليسرى في قوله ( لليسرى ) هي ما لا مشتقة فيه . وتأنيثها : إما بتأويل الحالة أي الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة وهي حالة النعيم أو على تأويلها بالمكانة . وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد . ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه أي الملائم .
والعسرى : إما الحالة وهي حالة العسر والشدة وإما مكانته وهي جهنم لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها قال تعالى ( فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ) فمعنى ( نيسره ) ندرجه في عملي السعادة والشقاوة وبه فسر ابن عطية فالأعمال اليسرى هي الصالحة وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال .
وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مرادا منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى ( قال سوف أستغفر لكم ربي ) .
وحرف ( ال ) في ( اليسرى ) وفي ( العسرى ) لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني .
وإذا قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر غذ جعل ضمير الغيبة في ( نيسره لليسرى ) العائد إلى ( من أعطى واتقى ) وهو الميسر وجعل ضمير الغيبة في ( نيسره للعسرى ) العائد إلى ( من بخل واستغنى ) وهو الميسر أي الذي صار الفعل صعب الحصول حاصلا له وإذ وقع المجروران باللازم ( اليسرى ) و ( العسرى ) وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بخل تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين : الأولى : إبقاء في فعل ( نيسر ) على حقيقته وجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام : فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولا بد من مقتض للقلب فيصار إلى أن المقتضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسر ميسرا له والميسر له ميسرا على نحو ما وجهوا به قول العرب : عرضت الناقة على الحوض .
والثانية أن يكون التيسير مستعملا مجازا مرسلا في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له وتكون اللام من قوله ( لليسرى ) و ( للعسرى ) لام التعليل أي نيسره لأجل اليسرى أو جل العسرى فالمراد باليسرى الجنة وبالعسرى جهنم على أن يكون الوصفان صارا علما بالغلبة على الجنة وعلى النار والتهيئة لا تكون لذات الجنة وذات النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخول اليسرى ولدخول العسرى أي سنعجل به ذلك .
A E