وابتدئ القسم بالشمس وأضوائها الثلاثة الأصلية والمنعكسة لأن الشمس أعظم النيرات التي يصل نور شديد منها للأرض ولما في حالها وحال أضوائها من الإيماء إلى أنها مثل لظهور الإيمان بعد الكفر وبث التقوى بعد الفجور فإن الكفر والمعاصي تمثل بالظلمة والإيمان والطاعات تمثل بالضياء قال تعالى ( ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ) .
وأعقب القسم بالنهار بالقسم بالليل لأن الليل مقابل وقت النهار فهو وقت الإظلام .
والغشي : التغطية وليس الليل بمغط للشمس على الحقيقة ولكنه مسبب عن غشي نصف الكرة الأرضية لقرص الشمس ابتداء من وقت الغروب وهو زمن لذلك الغشي . فإسناد الغشي إلى الليل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زمنه أو إلى مسببه " بفتح الباء " .
والغاشي في الحقيقة هو تكوير الأرض ودورانها تجاه مظهر الشمس وهي الدورة اليومية وقيل ضمير المؤنث في ( يغشاها ) عائد إلى الأرض على نحو ما قيل في ( والنهار إذا جلاها ) .
و ( إذا ) في قوله ( إذا تلاها ) وقوله ( إذا جلاها ) وقوله ( إذا يغشاها ) في محل نصب على الظرفية متعلقة بكون هو حال من القمر ومن النهار ومن الليل فهو ظرف مستقر أي مقسما بكل واحد من هذه الثلاثة في الحالة الدالة على أعظم أحواله وأشدها دلالة على عظيم صنع الله تعالى .
وبناء السماء تشبيه لرفعها فوق الأرض بالبناء . والسماء آفاق الكواكب قال تعالى ( ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ) وتقييد القسم بالليل بوقت تغشيته تذكيرا بالعبرة بحدوث حالة الظلمة بعد حالة النور .
وطحو الأرض : بسطها وتوطئتها للسير والجلوس والاضطجاع يقال : طحا يطحو ويطحي طحوا وطحيا وهو مرادف ( دحا ) في سورة النازعات .
و ( النفس ) : ذات الإنسان كما تقدم عند قوله تعالى ( يأيتها النفس المطمئنة ) وتنكير ( نفس ) للنوعية أي جنس النفس فيعم كل نفس عموما بالقرينة على نحو قوله تعالى ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) .
وتسوية النفس : خلقها سواء أي غير متفاوتة الخلق وتقدم في سورة الانفطار عند قوله تعالى ( الذي خلقك فسواك ) .
و ( ما ) في المواضع الثلاثة من قوله ( وما بناها ) أو ( ما طحاها ) ( وما سواها ) إما مصدرية يؤول الفعل بعدها بمصدر فالقسم بأمور من آثار قدرة الله تعالى وهي صفات الفعل الإلهية وهي رفعة السماء وطحوه الأرض وتسويته الإنسان .
وعطف ( فألهمها فجورها وتقواها ) على ( سواها ) فهو مقسم به وفعل ( ألهمها ) في تأويل مصدر لأنه معطوف على صلة ( ما ) المصدرية وعطف بالفاء لأن الإلهام ناشئ عن التسوية فضمير الرفع في ( ألهمها ) عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من ( سواها ) ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة صادقة على فعل الله تعالى وجملة ( بناها ) صلة الموصول أي والبناء الذي بنى السماء والطحو الذي طحا الأرض والتسوية التي سوت النفس .
فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإلهام .
والإلهام : مصدر ألهم وهو فعل متعد بالهمزة ولكن المجرد منه ممات الإلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهدا له من كلام العرب .
ويطلق الإلهام إطلاقا خاصا على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانيا كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية النظرية .
وإيثار الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإنسان قال الراغب : الإلهام : إيقاع الشيء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وجهة الملأ الأعلى اه . ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواج أمثال ذلك في اللغة قبل الإسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب وهو مشتق من اللهم وهو البلع دفعة يقال : لهم كفرح وأما إطلاق الإلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية .
A E