متصل بقوله ( إن بطش ربك لشديد ) فالخطاب للنبي A للاستدلال على كون بطشه تعالى شديدا ببطشين بطشهما بفرعون وثمود بعد أن علل ذلك بقوله ( إنه هو يبديء ويعيد ) فذلك تعليل وهذا تمثيل ودليل .
والاستفهام مستعمل في إرادة لتهويل حديث الجنود بأن يسأل عن عمله . وفيه تعريض للمشركين بأن قد يحل بهم ما حل بأولئك ( وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى ) إلى قوله ( فبأي آلاء ربك تتمارى ) .
والخطاب لغير معين ممن يراد موعظته من المشركين كناية عن التذكير بخبرهم لأن حال المتلبسين بمثل صنيعهم الراكبين رؤوسهم في العناد كحال من لا يعلم خبرهم فيسأل هل بلغه خبرهم أو لا أو خطابا لغير معين تعجيبا من حال المشركين في إعراضهم عن الاتعاظ بذلك فيكون الاستفهام مستعملا في التعجيب .
والإتيان : مستعار لبلوغ الخبر والحديث : الخبر . وتقدم في سورة النازعات .
والجنود : جمع جند وهو العسكر المتجمع للقتال . وأطلق على الأمم التي تجمعت لمقاومة الرسل كقوله تعالى ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) واستعير الجند للملأ بقوله ( وانطلق الملأ منهم ) ثم رشحت الاستعارة باستعارة مهزوم وهو المغلوب في الحرب فاستعير للمهلك المستأصل من دون حرب .
وأبدل فرعون وثمود من الجنود بدلا مطابقا لأنه أريد العبرة بهؤلاء .
وفرعون : اسم لملك مصر من القبط وقد تقدم عند قوله تعالى ( ثم بعثنا من بعدهم موسى بآيتنا إلى فرعون وملائه ) في سورة الأعراف .
والكلام على حذف مضاف لأن فرعون ليس بجند ولكنه مضاف إليه الجند الذين كذبوا موسى عليه السلام وآذوه . فحذف المضاف لنكتة المزاوجة بين اسمين علمين مفردين في الابدال من الجنود .
وضرب المثل بفرعون لأبي جهل وقان يلقب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة وضرب المثل للمشركين بقوم فرعون لأنهم أكبر أمة تألبت على رسول من رسل الله بعثه الله لإعتاق بني إسرائيل من ذل العبودية لفرعون وناووه لأنه دعا إلى عبادة الرب الحق فغاظ ذلك فرعون الزاعم أنه إله القبط وابن آلهتهم .
وتخصيص ثمود بالذكر من بقية الأمم التي كذبت الرسل من العرب مثل عاد وقوم تبع ومن غيرهم مثل قوم نوح وقوم شعيب . لما اقتضته الفاصلة السابعة الجارية على حرف الدال من قوله ( إن بطش ربك لشديد ) فإن ذلك لما استقامت به الفاصلة ولم يكن في ذكره تكلف كان من محاسن نظم الكلام إيثاره .
وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ) في سورة الأعراف . وهو اسم عربي ولكن يطلق على القبيلة التي ينتهي نسبها إليه فيمنع من الصرف بتأويل القبيلة كما هنا .
( بل الذين كفروا في تكذيب [ 19 ] والله من ورائهم محيط [ 20 ] ) إضراب انتقالي إلى إعراضهم عن الاعتبار بحال الأمم الذين كذبوا الرسل وهو أنهم مستمرون على التكذيب منغمسون فيه انغماس المظروف في الظرف فجعل تمكن التكذيب من نفوسهم كتمكن الظرف بالمظروف .
A E وفيه إشارة إلى أن إحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بالمظروف لا يترك لتذكر ما حل بأمثالهم من الأمم مسلكا لعقولهم ولهذا لم يقل بل الذين كفروا يكذبون كما قال في سورة الانشقاق .
وحذف متعلق التكذيب لظهوره من المقام إذ التقدير : أنهم في تكذيب بالنبي A وبالوحي المنزل إليه وبالبعث .
وجملة ( والله من ورائهم محيط ) عطف على جملة ( الذين كفروا في تكذيب ) أي هم متمكنون من التكذيب والله يسلط عليهم عقابا لا يفلتون منه . فقوله ( والله من ورائهم محيط ) تمثيل لحال انتظار العذاب إياهم وهم في غفلة عنه بحال من أحاط به العدو من ورائه وهو لا يعلم حتى إذا رام الفرار والإفلات وجد العدو محيطا به وليس المراد هنا إحاطة علمه تعالى بتكذيبهم إذ ليس له كبير جدوى .
وقد قوبل جزاء إحاطة التكذيب بهم بإحاطة العذاب بهم جزاء وفاقا فقوله ( والله من ورائهم محيط ) خبر مستعمل في الوعيد والتهديد .
( بل هو قرءان مجيد [ 21 ] في لوح محفوظ [ 22 ] ) إضراب إبطال لتكذيبهم لأن القرآن جاءهم بدلائل بينة فاستمرارهم على التكذيب ناشيء عن سوء اعتقادهم صدق القرآن إذ وصفوه بصفات النقص من قولهم : أساطير الأولين إفك مفترى قول كاهن قول شاعر فكان التنويه به جامعا لإبطال جميع ترهاتهم على طريقة الإيجاز