والوسق : جمع الأشياء بعضها على بعض فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشرا في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) وذلك من بديع التكوين فلذلك أقسم به قسما أدمجت فيه منة .
وقيل : ما وسقه الليل : النجوم لأنها تظهر في الليل فشبه ظهورها فيه بوسق الواسق أشياء متفرقة . وهذا أنسب بعطف القمر عليه .
واتساق القمر : اجتماع ضيائه وهو افتعال من الوسق بمعنى الجمع كما تقدم آنفا وذلك في ليلة البدر وتقييد القسم به بتلك الحالة لأنها مظهر نعمة الله على الناس بضيائه .
وأصل فعل اتسق : اوتسق قلبت الواو تاء فوقية طلبا لإدغامها في تاء الافتعال وهو قلب مطرد .
وجملة ( لتركبن طبقا عن طبق ) نسج نظمها نسجا مجملا لتوفير المعاني التي تذهب إليها أفهام السامعين فجاءت على أبدع ما ينسج عليه الكلام الذي يرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها .
فلمعاني الركوب المجازية ولمعاني الطبق من حقيقي مجازي متسع لما تفيده الآية من المعاني وذلك ما جعل لإيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإعجاز القرآني .
فأما فعل ( لتركبن ) فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدة منها الغلب والمتابعة والسلوك والاقتحام والملازمة والرفعة .
وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال : ركب أمرا صعبا وارتكب خطأ .
وأما كلمة ( طبق ) فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئا آخر في حجمه وقدره وظاهر كلام الأساس والصحاح أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشيء لمساويه فهو حقيقة في الغطاء فيكون في الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيد كالخوان والكأس وظاهر الكشاف أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قيد الاعتلاء عارضا بغلبة الاستعمال يقال : طابق النعل النعل .
وأياما كان فهو اسم على وزن فعل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عوامل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق وإما أن يكون أصله اسم الطبق هو الغطاء لوحظ في التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة .
ويطلق اسما مفردا للغطاء الذي يغطى به ومنه قولهم في المثل " وافق شن طبقة " أي غطاءه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساو لما يغطيه . ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طبق عليه .
A E ويطلق اسما مفردا أيضا على شيء متخذ من أدم أو عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها وكأنه سمي طبقا لأن أصله يستعمل غطاء الآنية فتوضع فيه أشياء .
ويطلق اسم جمع لطبقة . وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثله في المقدار إلا أنه مرتفع عليه وهذا من المجاز يقال : أتانا طبق من الناس أي جماعة .
ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى ( عن ) من مجاوزة وهي معنى حقيقي أو من مرادفة كلمة ( بعد ) وهو معنى مجازي .
وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقا بين المفعول به والحال وتزداد هذه المحامل إذا لم تقصر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية ( يأيها الإنسان إنك كادح ) الآيات . ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد ومن اقتضاه فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل . فتتركب من هذه المحامل معان كثيرة صالحة لتأويل الآية .
فقيل المعنى : لتركبن حالا بعد حال رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي A والأظهر أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين ( طبق ) في الموضعين للتعظيم والتهويل و ( عن ) بمعنى ( بعد ) والبعدية اعتبارية وهي بعدية ارتقاء أي لتلاقن هولا اعظم من هول كقوله تعالى ( زدناهم عذابا فوق العذاب ) . وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها