هذا تفصيل الإجمال الذي في قوله ( إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) أي رجوع جميع الناس أولئك إلى الله فمن أوتي كتابه بيمينه فريق من الناس هم المؤمنون ومن أوتي كتابه وراء ظهره فريق آخر وهم المشركون كما دل عليه قوله تعالى ( إنه ظن أن لن يحور ) وبين منتهاهما مراتب وإنما جاءت هذه الآية على اعتبار تقسيم الناس يومئذ بين أتقياء ومشركين .
والكتاب : صحيفة الأعمال وجعل إيتاؤه إياه بيمينه شعارا للسعادة لما هو متعارف من أن اليد اليمنى تتناول الأشياء الزكية وهذا في غريزة البشر نشأ عن كون الجانب الأيمن من الجسد أقدر وأبدر للفعل الذي يتعلق العزم بعمله فارتكز في النفوس أن البركة في الجانب الأيمن حتى سموا البركة والسعادة يمنا ووسموا ضدها بالشؤم فكانت بركة اليمين مما وضعه الله تعالى في أصل فطرة الإنسان وتقدم عند قوله تعالى ( قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ) في سورة الصافات وقوله ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ) . وقوله ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ) في سورة الواقعة وقوله ( فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ) في سورة الواقعة .
والباء في قوله ( بيمينه ) للملابسة أو المصاحبة أو هي بمعنى ( في ) وهي متعلقة ب ( أوتي ) .
وحرف ( سوف ) أصله لحصول الفعل في المستقبل والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد وذلك هو الشائع ويقصد به في الاستعمال البليغ تحقق حصول الفعل واستمراره ومنه قوله تعالى ( قال سوف أستغفر لكم ربي ) في سورة يوسف وهو هنا مفيد للتحقيق والاستمرار بالنسبة إلى الفعل القابل للاستمرار وهو ينقلب إلى أهله مسرورا وهو المقصود من هذا الوعد . وقد تقدم عند قوله تعالى ( فسوف نصليه نارا ) في سورة النساء .
والحساب اليسير : هو عرض أعماله عليه دون مناقشة فلا يطول زمنه فيعجل به إلى الجنة وذلك إذا كانت أعماله صالحة فالحساب اليسير كناية عن عدم المؤاخذة .
و ( من أوتي كتابه وراء ظهره ) هو الكافر . والمعنى : أنه يؤتى كتابه بشماله كما تقتضيه المقابلة ب ( من أوتي كتابه بيمينه ) وذلك أيضا في سورة الحاقة قوله ( وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ) أي يعطى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله تحقيرا له ويناول له من وراء ظهره إظهارا للغضب عليه بحيث لا ينظر مناوله كتابه إلى وجهه .
A E وظرف ( وراء ظهره ) في موضع الحال من ( كتابه ) .
و ( ينقلب إلى أهله ) أي يرجع . والانقلاب : الرجوع إلى المكان الذي جيء منه وقد تقدم قريبا في سورة المطففين .
والأهل : العشيرة من زوجة وأبناء وقرابة .
وهذا التركيب تمثيل لحال المحاسب حسابا يسيرا في المسرة والفوز والنجاة بعد العمل الصالح في الدنيا بحال المسافر لتجارة حين يرجع إلى أهله سالما رابحا لما في الهيئة المشبه بها من وفرة المسرة بالفوز والربح والسلامة ولقاء الأهل وكلهم في مسرة فذلك وجه الشبه بين الهيأتين وهو السرور المألوف للمخاطبين فالكلام استعارة تمثيلية .
وليس المراد رجوعه إلى منزله في الجنة لأنه لم يكن فيه من قبل حتى يقال لمصيره إليه انقلاب ولأنه قد لا يكون له أهل . وهو أيضا كناية عن طول الراحة لأن المسافر إذا رجع إلى أهله فارق المتاعب زمان .
والمراد بالدعاء في قوله ( يدعو ثبورا ) النداء أي ينادي الثبور بأن يقول : يا ثبوري أو يا ثبورا كما يقال : يا ويلي ويا ويلتنا .
والثبور : الهلاك وسوء الحال وهي كلمة يقولها من وقع في شقاء وتعس .
والنداء في مثل هذه الكلمات مستعمل في التحسر والتوجع من معنى الاسم الواقع بعد حرف النداء .
( ويصلى ) قرأه نافع وبن كثير وبن عامر والكسائي بتشديد اللام مضاعف صلاه إذا أحرقه . وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف ( ويصلى ) بفتح التحتية وتخفيف اللام مضارع صلي اللازم إذا مسته النار كقوله ( يصلونها يوم الدين ) .
وانتصب ( سعيرا ) على نزع الخافض بتقدير يصلى بسعير وهذا الوجه هو الذي يطرد في جميع المواضع التي جاء فيها لفظ النار ونحوه منصوبا بعد الأفعال المشتقة من الصلي والتصلية وقد قدمنا وجهه في تفسير قوله تعالى ( وسيصلون سعيرا ) في سورة النساء فأنظره