فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة وما يصدر عنهم من الأعمال وأما صفة الكتاب فمراد بها ضبط ما وكلوا على حفظه ضبطا لا يتعرض للنسيان ولا للإجحاف ولا للزيادة فالكتابة مستعارة لهذا المعنى على أن حقيقة الكتابة بمعنى الخط غير ممكنة بكيفية مناسبة لأمور الغيب .
وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهم .
و ( ما تفعلون ) يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكلين بذلك .
ودخل في ( ما تفعلون ) : الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي العقل فإن الإنسان يعمل عقله ويعزم ويتردد وإن لم يشفع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية .
واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل ما يقوم بعمل للأمة في الإسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا علية وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط .
فلا بد فيهم من الكرم وهو زكاة الفطرة أي طهارة النفس .
ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوبا أو كالمكتوب مضبوطا لا يستطاع تغييره ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل يعد القائم به أو في مغيبة أن يعرف ماذا أجري فيه من الإعمال وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب ومنه نشأت دواوين القضاة ودفاتر الشهود والخطاب على الرسوم وإخراج نسخ الأحكام والأحباس وعقود النكاح .
A E ومن إحاطة العلم بما يتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها بحيث لا يستطيع أحد من المغالطين أن يموه عليه شيئا أو أن يلبس عليه حقيقة بحيث ينتفي عنه الغلط والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن ويختلف العلم المطلوب باختلاف الأعمال فيقدم في كل ولاية من هو أعلم بما تقتضيه ولايته من الأعمال وما تتوقف عليه من المواهب والدراية فليس ما يشترط في القاضي يشترط في أمير الجيش مثلا وبمقدار التفاوت في الخصال التي تقتضيها إحدى الولايات يكون ترجيح من تسند إليه الولاية على غيره حرصا على حفظ مصالح الأمة فيقدم في كل ولاية من هو أقوى كفاءة لإتقان أعمالها وأشد اضطلاعا بممارستها .
( إن الأبرار لفي نعيم [ 13 ] وإن الفجار لفي جحيم [ 14 ] يصلونها يوم الدين [ 15 ] هم عنها بغائبين [ 16 ] ) فصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها استئناف بياني جواب عن سؤال يخطر في نفس السامع يثيره قوله ( بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين ) . الآية لتشوف النفس إلى معرفة هذا الجزاء ما هو وإلى معرفة غاية إقامة الملائكة لإحصاء الأعمال ما هي فبين ذلك بقوله : ( إن الابرار لفي نعيم ) الآية .
وأيضا تتضمن هذه الجملة تقسيم أصحاب الأعمال فهي تفصيل لجملة ( يعلمون ما تفعلون ) وذلك من مقتضيات فصل الجملة عن التي قبلها .
وجيء بالكلام مؤكدا ب ( إن ) ولام الابتداء ليساوي البيان مبينه في التحقيق ودفع الإنكار .
وكرر التأكيد مع الجملة المعطوفة للاهتمام بتحقيق كونهم في جحيم لا يطمعوا في مفارقته .
والأبرار : جمع بر بفتح الباء وهو التقي . وهو فعل بمعنى فاعل مشتق من بر يبر ولفعل بر اسم مصدر هو بر بكسر الباء ولا يعرف له مصدر قياسي بفتح الباء كأنهم أماتوه لئلا يلتبس بالبر وهو التقي . وإنما سمي التقي برا لأنه بر ربه أي صدقه ووفى له بما عهد له الأمر بالتقوى .
والفجار : جمع فاجر وصيغة فعال تطرد في تكسير فاعل المذكر الصحيح اللام .
والفاجر : اسم ما ينعم به الإنسان .
والظرفية من قوله ( في نعيم ) مجازية لأن النعيم أمر اعتباري لا يكون ظرفا حقيقة شبه دوام التنعم لهم بإحاطة الظرف بالمظروف بحيث لا يفارقه .
وأما ظرفية قوله ( لفي جحيم ) فهي حقيقية .
والجحيم صار علما بالغلبة على جهنم وقد تقدم في سورة التكوير وفي سورة النازعات .
وجملة ( يصلونها ) صفة ل ( جحيم ) أو حال من ( الفجار ) أو حال من الجحيم وصلي النار : مس حرها للجسم يقال : صلي النار إذا أحس بحرها وحقيقته : الإحساس بحر النار المؤلم فإذا أريد التدفي قيل : اصطلى