وكانوا يفعلون ذلك خشية من إغارة العدو عليهم فيسبي نساءهم ولخشية الإملاق في سني الجدب لأن الذكر يحتال للكسب بالغارة وغيرها والأنثى عالة على أهلها قال تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) وقال ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) . وإذ قد فشى فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها فتحركت فيها الخواطر الإجرامية فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك وامرأته تكره أن تولد لها أنثى خشية من فراق زوجها إياها وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى .
وقد توارثت هذا الجهل أكثر الأمم على تفاوت بينهم فيه ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته " نعم الصهر القبر " .
ومن آثار هذا الشعور حرمان البنات من أموال آباءهن بأنواع من الحيل مثل وقف أموالهم على الذكور دون الإناث وقد قال مالك : إن ذلك من سنة الجاهلية ورأى ذلك الحبس باطلا وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أيهن لأخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن فلا يمتنعن من ذلك ويرين الامتناع من ذلك عارا عليهن فإن لم يفعلن قطعهن أقرباؤهن .
وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل . وبعضهم يعدها من الإكراه .
ولم يكن الوأد معمولا به عند جميع القبائل قيل : أول من وأد البنات من القبائل ربيعة وكانت كندة تئد البنات وكان بنو تميم يفعلون ذلك ووأد قيس أبن عاصم المنقري من بني تميم ثمان بنات له قبل إسلامه .
ولم يكن الوأد في قريش البتة . وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق من بني تميم يفتدي من يعلم أنه يريد وأد بنته من قومه بناقتين عشراوين وجمل فقيل : إنه افتدى ثلاثمائة وستين موءودة وقيل وسبعين وفي الأغاني : وقيل أربعمائة .
وفي تفسير القرطبي : فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة ومثل هذا في كتاب الشعراء لأبن قتيبة وبين العددين بون بعيد فلعل في أحدهما تحريفا .
وفي توجيه السؤال إلى الموءودة ( بأي ذنب قتلت ) في ذلك الحشر إدخال الروع على من وأدها وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجب قتلها للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها وليكون جوابها شهادة على من وأدها فيكون استحقاقه العقاب أشد وأظهر .
وجملة ( بأي ذنب قتلت ) بيان لجملة ( سئلت ) .
و ( أي ) اسم استفهام يطلب به تميز شيء من بين أشياء تشترك معه في حال .
والاستفهام في ( بأي ذنب ) تقريري وإنما سئلت عن تعيين الذنب الموجب قتلها دون أن تسأل عن قاتلها لزيادة التهديد لأن السؤال عن تعيين الذنب مع تحقق الوائد الذي يسمع ذلك السؤال أن لا ذنب لها إشعار للوائد بأنه غير معذور فيما صنع بها .
وينتزع من قوله تعالى ( سئلت بأي ذنب قتلت ) الوارد في سياق نفي ذنب عن الموءودة يوجب قتلها استدلال على أن من ماتوا من أطفال المشركين لا يعتبرون مشركين مثل آباءهم وأول من رأيته تعرض لهذا الاستدلال الزمخشري في الكشاف . وذكر أن ابن عباس استدل على هذا المعنى قال في الكشاف " وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإذ أبكت الله الكافر ببراءة الموءودة من الذنب فما أقبح به وهو الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يكر على هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي " . وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية اه . فأشار إلى ثلاثة أدلة : أحدها : دلالة الإشارة أي لأن قوله تعالى ( بأي ذنب قتلت ) يشير إلى أنها لا ذنب لها وهذا استدلال ضعيف لأن الذنب المنفي وجوده بطريقة الاستفهام المشوب بإنكار إنما هو الذنب الذي يخول لأبيها وأدها لا إثبات حرمتها وعصبة دمها فتلك قضية أخرى على تفصيل فيها .
الثاني : قاعدة إحالة فعل القبيح على الله تعالى على قاعدة التحسين والتقبيح عند المعتزلة وإحالتهم الظلم على الله إذا عذب أحدا بدون فعله وهو أصل مختلف فيه بين الأشاعرة والمعتزلة . فعندنا أن تصرف الله في عبيده لا يوصف بالظلم خلافا لهم على أن هذا الدليل مبني على أساس الدليل الأول وقد علمت أنه غير سالم من النقض .
A E