قال الطيبي : " قال ابن جني : متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر فكثيرا ما يجرى أحدهما مجرى صاحبه فيعول به في الاستعمال إليه ( كذا ) ويحتذى به في تصرفه حذو صاحبه وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه ألا ترى إلى قوله تعالى ( هل لك إلا أن تزكى ) وأنت إنما تقول : هل لك في كذا ؟ لكنه لما دخله معنى : آخذ بك إلى كذا أو أدعوك إليه قال ( هل لك إلا أن تزكى ) . وقوله تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) لا يقال : رفث إلى المرأة إنما يقال : رفثت بها ومعها لكن لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عدي ب ( إلى ) وهذا من أسد مذاهب العربية لأنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه إليه " اه . قيل ليس هذا من باب التضمين بل من باب المجاز والقرينة الجارة .
A E و ( تزكى ) قرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر ويعقوب بتشديد الزاي على اعتبار أن أصله : تتزكى بتاءين فقلبت التاء المجاورة للزاي زايا لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الزاي . وقرأه الباقون بتخفيف الزاي على أنه حذفت إحدى التائين اقتصارا للتخفيف .
وفعل ( تزكى ) على القراءتين أصله : تتزكى بتاءين مضارع تزكى مطاوع زكاه أي جعله زكيا .
والزكاة : الزيادة وتطلق على الزيادة في الخير النفساني قال تعالى ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) وهو مجاز شائع ساوى الحقيقة ولذلك لا يحتاج إلى قرينة .
والمعنى : حثه على أن يستعد لتخليص نفسه من العقيدة الضالة التي هي خبث مجازي في النفس فيقبل إرشاد من يرشده إلى ما به زيادة الخير فإن فعل المطاوعة يؤذن بفعل فاعل يعالج نفسه ويروضها إذ كان لم يهتد أن يزكي نفسه بنفسه .
ولذلك أعقبه بعطف ( وأهديك إلى ربك فتخشى ) أي إن كان فيك إعداد نفسك للتزكية يكن إرشادي إياك فتخشى فكان ترتيب الجمل في الذكر مراعى فيه ترتبها في الحصول فلذلك لم يحتج إلى عطفه بفاء التفريغ إذ كثيرا ما يستغنى بالعطف بالواو مع إرادة الترتيب عن العطف بحرف الترتيب لأن الواو تفيد الترتيب بالقرينة ويستغنى بالعطف عن ذكر حرف التفسير في العطف التفسيري الذي يكون الواو فيه بمعنى ( أي ) التفسيرية فإن ( أن تزكى وأهديك ) في قوة المفرد . والتقدير : هل لك في التزكية وهدايتي إياك فخشيتك الله تعالى .
والهداية : الدلالة على الطريق الموصل إلى المطلوب إذا قبلها المهدي .
وتفريع ( فتخشى ) على ( أهديك ) إشارة إلى أن خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة قال تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) أي العلماء به أي يخشاه خشية كاملة لا خطأ فيها ولا تقصير .
قال الطيبي : وعن الواسطي : أوائل العلم الخشية ثم الإجلال ثم التعظيم ثم الهيبة ثم الفناء .
وفي الاقتصار على ذكر الخشية إيجاز بليغ لأن الخشية ملاك كل خير . وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة قال : " سمعت رسول الله A من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل " .
وذكر له الإله الحق بوصف ( ربك ) دون أن يذكر اسم الله العلم أو غيره من طرق التعريف إلطافا في الدعوة إلى التوحيد وتجنبا لاستطارة نفسه نفورا لأنه لا يعرف في لغة فرعون اسم الله تعالى ولو عرفه له باسمه في لغة إسرائيل لنفر لأن فرعون كان يعبد آلهة باطلة فكان في قوله إلى ربك وفرعون يعلم أن له ربا إطماع له أن يرشده موسى إلى ما لا ينافي عقائده فيصغي إليه سمعه حتى إذا سمع قوله وحجته داخله الإيمان الحق مدرجا ففي هذا الأسلوب استنزال لطائره .
والخشية : الخوف فإذا أطلقت في لسان الشرع يراد بها خشية الله تعالى ولهذا نزل فعلها هنا منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول لأن المخشي معلوم مثل فعل الإيمان في لسان الشرع يقال : آمن فلان وفلان مؤمن أي مؤمن بالله ووحدانيته .
( فأريه الآية الكبرى [ 20 ] فكذب وعصى [ 21 ] ثم أدبر يسعى [ 22 ] فحشر فنادى [ 23 ] فقال أنا ربكم الأعلى [ 24 ] )