وأنتصب ( كذابا ) على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة تكذيبهم بالآيات .
( وكل شيء أحصيناه كتابا [ 29 ] ) اعتراض بين الجمل التي سيقت مساق التعليل وبين جملة ( فذوقوا ) . وفائدة هذا الاعتراض المبادة بإعلامهم أن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فلا يدع شيئا من سيئاتهم إلا يحاسبهم عليه ما ذكر هنا وما لم يذكر ؛ كأنه قيل : إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا وفعلوا مما عدا ذلك وكل ذلك محصي عندنا .
ونصب ( كل ) على المفعولية ل ( أحصيناه ) على طريقة الاشتغال بضميره .
والإحصاء : حساب الأشياء لضبط عددها فالإحصاء كناية عن الضبط والتحصيل .
وانتصب ( كتابا ) على المفعولية المطلقة ل ( إن جهنم كانت مرصادا ) وما أتصل بها فهو مصدر بمعنى الكتابة وهو كناية عن شدة الضبط لأن الأمور المكتوبة مصونة عن النسيان والإغفال فباعتبار كونه كناية عن الضبط جاء مفعولا مطلقا ل ( أحصينا ) .
( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا [ 30 ] ) الفاء للتفريغ والتسبب على جملة ( إن جهنم كانت مرصادا ) وما أتصل بها ولما غير أسلوب الخبر إلى الخطاب بعد أن كان جاريا بطريق الغيبة ولم يكن مضمون الخبر مما يجري في الدنيا فيظن أنه خطاب تهديد للمشركين تعين أن يكون المفرع قولا محذوفا دل عليه فعل ( ذوقوا ) الذي لا يقال إلا يوم الجزاء فالتقدير : فيقال لهم ذوقوا إلى آخره ولهذا فليس في ضمير الخطاب التفات فالمفرع بالفاء هو فعل القول المحذوف .
والأمر في ( ذوقوا ) مستعمل في التوبيخ والتقريع .
وفرع على ( فذوقوا ) ما يزيد تنكيدهم وتحسيرهم بإعلامهم بأن الله سيزيدهم عذابا فوق ما هم فيه .
والزيادة : ضم شيء إلى غيره من جنس واحد أو غرض واحد قال تعالى ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) وقال ( ولا تزد الظالمين إلا تبارا ) أي لا تزدهم على ما هم فيه من المساوي إلا الإهلاك .
فالزيادة المنفية في قوله ( فلن نزيدكم إلا عذابا ) يجوز أن تكون زيادة نوع آخر من عذاب يكون حاصلا لهم كما في قوله تعالى ( زدناهم عذابا فوق العذاب ) .
ويجوز أن تكون زيادة من نوع ما هم فيه من العذاب بتكريره في المستقبل .
والمعنى : فسنزيدكم عذابا زيادة مستمرة في أزمنة المستقبل فصيغ التعبير عن هذا المعنى بهذا التركيب الدقيق إذ أبتدئ بنفي الزيادة بحرف تأبيد النفي وأردف الاستثناء المقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى فصارت دلالة الاستثناء على معنى : سنزيدكم عذابا مؤبدا . وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده وهو أسلوب طريف من التأكيد إذ ليس فيه إعادة لفظ فإن زيادة العذاب تأكيد للعذاب الحاصل .
A E ولما كان المقصود الوعيد بزيادة العذاب في المستقبل جيء في أسلوب نفيه بحرف نفي المستقبل وهو ( لن ) المفيد تأكيد النسبة المنفية وهي ما دل عليه مجموع النفي والاستثناء فإن قيد تأبيد نفي الزيادة الذي يفيده حرف ( لن ) في جانب المستثنى منه يسري إلى إثبات زيادة العذاب في جانب المستثنى فيكون معنى جملة الاستثناء : سنزيدكم عذابا أبدا وهو معنى الخلود في العذاب . وفي هذا الأسلوب ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس وذلك أشد حزنا وغما بما يوهمهم أن ما ألقوا فيه هو منتهى التعذيب حتى إذا ولج ذلك أسماعهم فحزنوا له أتبع بأنهم ينتظرهم عذاب آخر أشد فكان ذلك حزنا فوق حزن فهذا منوال هذا النظم وهو مؤذن بشدة الغضب .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي برزة الأسلمي وأبي هريرة : أن هذه الآية أشد ما نزل في أهل النار وقد أسند هذا إلى النبي A من حديث عن أبي برزة الأسلمي . " سألت النبي A عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار ؟ فقال : قول الله تعالى ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) . وفي سنده جسر بن فرقد وهو ضعيف جدا .
وفي ابن عطية : أن أبا هريرة رواه عن النبي A ولم يذكر أبن عطية سنده وتعدد طرقه يكسبه قوة .
( إن للمتقين مفازا [ 31 ] حدائق وأعنابا [ 32 ] وكواعب أترابا [ 33 ] وكأسا دهاقا [ 34 ] لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا [ 35 ] جزاء من ربك عطاء حسابا [ 36 ] ) جرى هذا الانتقال على عادة القرآن في تعقيب الإنذار للمنذرين بتبشير من هم أهل للتبشير