ومئابا : مكان الأوب وهو الرجوع أطلق على المقر والمسكن إطلاقا أصله كناية ثم شاع استعماله فصار اسما للموضع الذي يستقر به المرء .
ونصب ( مئابا ) على الحال من ( جهنم ) أو على أنه خبر ثان لفعل ( كانت ) أو على أنه بدل اشتمال من ( مرصادا ) لأن الرصد يشتمل على أشياء مقصودة منها أن يكونوا صائرين إلى جهنم .
و ( للطاغين ) متعلق ب ( مئابا ) قدم عليه لإدخال الروع على المشركين الذين بشركهم طغوا على الله وهذا أحسن كما علمت آنفا . ولك أن تجعله متعلقا ب ( مرصادا ) أو متنازعا فيه بين ( مرصادا ) أو متنازعا فيه بين ( مرصادا ) و ( مئابا ) كما علمت آنفا .
والطغيان : تجاوز الحد في عدم الاكتراث بحق الغير والكبر والتعريف فيه للعهد فالمراد به المشركون المخاطبون بقوله ( فتأتون أفواجا ) فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى سبب جعل جهنم لهم لأن الشرك أقصى الطغيان إذ المشركون بالله أعرضوا عن عبادته ومتكبرون على رسوله A حيث أنفوا من قبول دعوته وهم المقصود من معظم ما في هذه السورة كما يصرح به قوله ( إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا ) . هذا وأن المسلمين المستخفين بحقوق الله أو المعتدين على الناس بغير حق واحتقارا لا لمجرد غلبة الشهوة لهم حظ من هذا الوعيد بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر .
واللابث : المقيم بالمكان . وانتصب ( لابثين ) على الحال من الطاغين .
وقرأه الجمهور ( لابثين ) على صيغة جمع لابث . وقرأه حمزة وروح عن يعقوب ( لبثين ) على صيغة جمع ( لبث ) من أمثلة المبالغة مثل حذر على خلاف فيه أو من الصفة المشبهة فتقتضي أن اللبث شأنه كالذي يجثم في مكان لا ينفك عنه .
وأحقاب : جمع حقب بضمتين وهو زمن طويل نحو الثمانين سنة وتقدم في قوله ( أو أمضي حقبا ) في سورة الكهف .
وجمعه هنا مراد به الطول العظيم لأن أكثر استعمال الحقب والأحقاب أن يكون في حيث يراد توالي الأزمان ويبين هذا الآيات الأخرى الدالة على خلود المشركين فجاءت هذه الآية على المعروف الشائع في الكلام كناية به عن الدوام دون انتهاء .
وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدين في أعمالهم .
( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا [ 24 ] إلا حميما و غساقا [ 25 ] جزاء وفاقا [ 26 ] ) .
هذه الجملة يجوز أن تكون حالا ثانية من ( الطاغية ) أو حالا أولى من الضمير في ( لابثين ) وأن تكون خبرا ثالثا ل ( كانت مرصادا ) .
وضمير ( فيها ) على هذه الوجود عائد إلى ( جهنم ) .
A E ويجوز أن تكون صفة ل ( أحقابا ) أي لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا . فضمير ( فيها ) على هذا الوجه عائد إلى الأحقاب .
وحقيقة الذوق : إدراك طعم الطعام والشراب . ويطلق على الإحساس بغير الطعوم مجازيا . وشاع في كلامهم يقال : ذاق الألم وعلى وجدان النفس كقوله تعالى ( ليذوق وبال أمره ) . وقد أستعمل هنا في معنييه حيث نصب ( بردا ) و ( شرابا ) .
والبرد : ضد الحر وهو تنفيس للذين عذابهم الحر أي لا يغاثون بنسيم بارد والبرد ألذ ما يطلبه المحرور . وعن مجاهد والسدي وأبي عبيدة ونفر قليل تفسير البرد بالنوم وأنشدوا شاهدين غير واضحين وأيا ما كان فحمل الآية عليه تكلف لا داعي إليه وعطف ( ولا شرابا ) يناكده . والشراب : ما يشرب والمراد به الماء الذي يزيل العطش . والحميم : الماء الشديد الحرارة .
والغساق : قرأه الجمهور بتخفيف السين . وقرأه حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين وهما لغتان فيه . ومعناه الصديد الذي يسيل من جروح الحرق وهو المهل وتقدما في سورة ص .
واستثناء ( حميما وغساقا ) من ( بردا ) أو ( شرابا ) على طريقة اللف والنشر المرتب وهو استثناء منقطع لأن الحميم ليس من جنس البرد في شيء إذ هو شديد الحر . ولأن الغساق ليس من جنس الشراب إذ ليس المهل من جنس الشراب .
والمعنى : يذوقون الحميم إذ يراق على أجسادهم والغساق إذ يسيل على مواضع الحرق فيزيد ألمهم .
وصورة الاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده في الصورة