( وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 20 ] ) التسيير : جعل الشيء سائرا أي ماشيا . وأطلق هنا على النقل من المكان أي نقلت الجبال وقلعت من مقارها بسرعة بزلازل أو نحوها كما دل عليه قوله تعالى ( يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) حتى كأنها تسير من مكان إلى آخر وهو نقل يصحبه تفتيت كما دل عليه تعقيبه بقوله ( فكانت سرابا ) لأن ظاهر التعقيب أن لا تكون معه مهلة أي فكانت كالسراب في أنها لا شيء .
والقول في بناء ( سيرت ) للمجهول كالقول في ( وفتحت السماء ) .
وكذلك قوله ( فكانت سرابا ) وهو كقوله ( فكانت أبوابا ) .
والسراب : ما يلوح في الصحاري مما يشبه الماء وليس بماء ولكنه حالة في الجو القريب تنشأ من تراكم أبخرة على سطح الأرض . وقد تقدم عند قوله تعالى ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) في سورة النور .
( إن جهنم كانت مرصادا [ 21 ] للطغين مئابا [ 22 ] لبثين فيها أحقابا [ 23 ] ) يجوز أن تكون جملة ( إن جهنم كانت مرصادا ) في موضع خبر ثان ل ( إن ) من قوله ( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) والتقدير : إن يوم الفصل إن جهنم كانت مرصادا فيه للطاغين والعائد محذوف دل عليه قوله ( مرصادا ) أي مرصادا فيه أي في ذلك اليوم لأن معنى المرصاد مقترب من معنى الميقات إذ كلاهما محدد لجزاء الطاغين .
ودخول حرف ( إن ) في خبر ( إن ) يفيد تأكيدا على التأكيد الذي أفاده حرف التأكيد الداخل على قوله ( يوم الفصل ) على حد قول جرير : .
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم ومنه قوله تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ) كما تقدم في سورة الحج . وتكون الجملة من تمام ما خوطبوا به بقوله ( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) .
والتعبير ب ( الطاغين ) إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بوصف الطغيان لأن مقتضى الظاهر أن يقول ( لكم مئابا ) .
ويجوز أن تكون مستأنفة أستئنافا بيانيا عن جملة ( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) وما لحق بها لأن ذلك مما يثير في نفوس السامعين تطلب ماذا سيكون بعد تلك الأهوال فأجيب بمضمون ( إن جهنم كانت مرصادا ) الآية . وعليه فليس في قوله ( للطاغين ) تخريج على خلاف مقتضى الظاهر .
وابتدئ بذكر جهنم لأن المقام مقام تهديد إذ ابتدئت السورة بذكر تكذيب المشركين بالبعث ولما سنذكره من ترتيب نظم هذه الجمل .
وجهنم : اسم لدار العذاب في الآخرة . قيل وهو اسم معرب فلعله معرب عن العبرانية أو عن لغة أخرى سامية وقد تقدم عند قوله تعالى ( فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) في سورة البقرة .
A E والمرصاد : مكان الرصد أي الرقابة وهو بوزن مفعال الذي غلب في اسم آلة الفعل مثل مضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومنهاج للموضع الذي ينهج منه .
والمعنى : أن جهنم موضع يرصد منه الموكلون بها ويترقبون من يزجي إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يأتيه من عدو .
ويجوز أن يكون مرصاد مصدرا على وزن المفعال أي رصدا . والإخبار به عن جهنم للمبالغة حتى كأنها أصل الرصد أي لا تفلت أحدا ممن حق عليهم دخولها .
ويجوز أن يكون مرصاد زنة مبالغة للراصد الشديد الرصد مثل صفة مغيار ومعطار وصفت به جهنم على طريقة الاستعارة ولم تلحقه ( ها ) التأنيث لأن جهنم شبهت بالواحد من الرصد بتحريك الصاد وهو الواحد من الحرس الذي يقف بالمرصد إذ لا يكون الحارس إلا رجلا .
ومتعلق ( مرصادا ) محذوف دل عليه قوله ( للطاغين مئابا ) .
والتقدير : مرصادا للطاغين وهذا أحسن لأن قرائن السورة قصار فيحسن الوقف عند ( مرصادا ) لتكون قرينة .
ولك أن تجعل للطاغين متعلقا ب ( مرصادا ) وتجعل متعلق ( مئابا ) مقدرا دل عليه ( للطاغين ) فيكون كالتضمين في الشعر إذ كانت بقية لما في القرينة الأولى في القرينة الموالية فتكون القرينة طويلة .
ولو شئت أن تجعل للطاغين متنازعا فيه بين ( مرصادا ) أو ( مئابا ) فلا مانع من ذلك معنى .
وأقحم ( كانت ) دون أن يقال : إن جهنم مرصاد للدلالة على أن جعلها مرصادا أمر مقدر لها كما تقدم في قوله ( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) . وفيه إيماء إلى سعة علم الله تعالى حيث أعد في أزله عقابا للطاغين