و ( قسورة ) قيل هو اسم جمع قسور وهو الرامي أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فعلل أن يجمع على فعللة . وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جاريا على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب .
وقيل : القسورة مفرد وهو الأسد وهذا مروي عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وقال ابن عباس : إنه الأسد بالحبشية فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافا لفظيا وعنه : أنه أنكر أن يكون قسور اسم الأسد فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية . وقد عده ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك وقال ابن سيده : القسور الأسد والقسورة كذلك أنثوه كما قالوا : أسامة وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إعراض مخلوط برعب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان .
وإيثار لفظ ( قسورة ) هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة .
( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة [ 52 ] ) إضراب انتقالي لذكر حالة أخرى من أحوال عنادهم إذ قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وغيرهما من كفار قريش للنبي A : لا نؤمن لك حتى يأتي إلى كل رجل منا كتاب فيه من الله إلى فلان بن فلان وهذا من أفانين تكذيبهم بالقرآن أنه منزل من الله .
وجمع ( صحف ) إما لأنهم سألوا أن يكون كل أمر أو نهي تأتي الواحد منهم في شأن صحيفة باسمه وكانوا جماعة متفقين جمع لذلك فكأن الصحف جميعها جاءت لكل امرئ منهم .
والمنشرة : المفتوحة المقروءة أي لا نكتفي بصحيفة مطوية لا نعلم ما كتب فيها ومنشرة مبالغة في منشورة . والمبالغة واردة على ما يقتضيه فعل ( نشر ) المجرد من كون الكتاب مفتوحا واضحا من الصحف المتعارفة . وفي حديث الرجم فنشروا التوراة .
( كلا بل لا يخافون الآخرة [ 53 ] ) ( كلا ) إبطال لظاهر كلامهم ومرادهم منه وردع عن ذلك أي لا يكون لهم ذلك .
ثم أضرب على كلامهم بإبطال آخر بحرف الإضراب فقال ( بل لا يخافون الآخرة ) أي ليس ما قالوه إلا تنصلا فلو أنزل عليهم كتاب ما آمنوا وهم لايخافون الآخرة أي لا يؤمنون بها فكني عن عدم الإيمان بالآخرة بعدم الخوف منها لأنهم لو آمنوا بها لخافوها إذ الشأن أن يخاف عذابها إذا كانت إحالتهم الحياة الآخرة أصلا لتكذيبهم بالقرآن .
( كلا إنه تذكرة [ 54 ] فمن شاء ذكره [ 55 ] وما تذكرون إلا أن يشاء الله ) ( كلا ) ردع ثان مؤكد للردع الذي قبله أي لا يؤتون صحفا منشورة ولا يوزعون إلا بالقرآن .
وجملة ( إنه تذكرة ) تعليل للردع عن سؤالهم أن تنزل عليهم صحف منشرة بأن هذا القرآن تذكرة عظيمة وهذا كقوله تعالى ( وقالوا لو أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) . فضمير ( إنه ) للقرآن وهو معلوم من المقام ونظائر ذلك كثيرة في القرآن . وتنكير ( تذكرة ) للتعظيم .
A E وقوله ( فمن شاء ذكره ) تفريع على أنه تذكرة ونظيره قوله تعالى ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) في سورة المزمل .
وهذا تعريض بالترغيب في التذكر أي التذكر طوع مشيئتكم فإن شأتم فتذكروا .
والضمير الظاهر في ( ذكره ) يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير ( إنه ) وهو القرآن فيكون على الحذف والإيصال وأصله : ذكر به .
ويجوز أن يعود إلى الله تعالى وإن لم يتقدم لاسمه ذكر في هذه الآيات لأنه مستحضر من المقام على نحو قوله ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) .
وضمير ( شاء ) راجع إلى ( من ) أي من أراد أن يتذكر ذكر بالقرآن وهو مثل قوله آنفا ( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) وقوله في سورة المزمل ( فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) .
وهو إنذار للناس بأن التذكر بالقرآن يحصل إذا شاؤوا التذكر به . والمشيئة تستدعي التأمل فيما يخلصهم من المؤاخذة على التقصير وهم لا عذر لهم في إهمال ذلك وقد تقدم في سورة المزمل .
وجملة ( وما تذكرون لا أن يشاء الله ) معترضة في آخر الكلام لإفادة تعلمهم بهذه الحقيقة والواو اعتراضية