وقوله ( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) بدل مفصل من مجمل من قوله ( للبشر ) وأعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كقوله تعالى ( قال الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم ) وقوله ( إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم ) وقوله تعالى ( تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ) . والمعنى : إنها نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الإيمان والخير لينتذر بها ولمن شاء أن يتأخر عن الإيمان والخير فلا يرعوي بنذارتها لأن التقدم مشي إلى جهة الأمام فكأن المخاطب يمشي إلى جهة الداعي إلى الإيمان وهو كناية عن قبول ما يدعو إليه وبعكسه التأخر فحذف متعلق ( يتقدم ) و ( يتأخر ) لظهوره من السياق .
ويجوز أن يقدر : لمن شاء أن يتقدم إليها أي إلى سقر بالإقدام على الأعمال التي تقدمه إليها أو يتأخر عنها بتجنب ما من شأنه أن يقربه منها .
وتعليق ( نذيرا ) بفعل المشيئة إنذار لمن لا يتذكر بأن عدم تذكره ناشئ عن عدم مشيئته فتبعته عليه لتفريطه على نحو قول المثل " يداك أوكتا وفوك نفخ " وقد تقدم في سورة المزمل قوله ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) .
وفي ضمير ( منكم ) التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن مقتضى الظاهر أن يقال : لمن شاء منهم أي من البشر .
( كل نفس بما كسبت رهينة [ 38 ] إلا أصحاب اليمين [ 39 ] في جنات يتساءلون [ 40 ] عن المجرمين [ 41 ] ما سلككم في سقر [ 42 ] قالوا لم نك من المصلين [ 43 ] ولم نك نطعم المسكين [ 44 ] وكنا نخوض مع الخائضين [ 45 ] وكنا نكذب بيوم الدين [ 46 ] حتى أتانا اليقين [ 47 ] فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 48 ] ) استئناف بياني للسامع عقبى الاختيار الذي في قوله ( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) أي كل إنسان رهن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم .
ورهينة : خبر عن ( كل نفس ) وهو بمعنى مرهونة .
والرهن : الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدين وقد يطلق على الملازمة والمقارنة ومنه : فرسا رهان وكلا المعنيين يصح الحمل عليه هنا على اختلاف الحال وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت من المحقوق به فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضمانا لئلا يخيس القوم بشروط الصلح وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن .
A E وبهذا يكون قوله ( كل نفس ) مرادا به خصوص أنفس المنذرين من البشر فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة أي قرينة ما تعطيه مادة رهينة من معنى الحبس والأسر .
والباء للمصاحبة لا للسببية .
وظاهر هذا أنه كلام منصف وليس بخصوص تهديد أهل الشر .
ورهينة : مصدر بزون فعيلة كالشتيمة فهو من المصادر المقترنة بهاء كهاء التأنيث مثل الفعولة والفعالة وليس هو من باب فعيل الذي هو وصف بمعنى المفعول مثل قتيلة إذ لو قصد الوصف لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوفه كما هنا والإخبار بالمصدر للمبالغة على حد قول مسور بن زيادة الحارثي : .
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل ألا تراه أثبت الهاء في صفة المذكر وإلا لما كان موجب للتأنيث .
والاستثناء في قوله ( إلا أصحاب اليمين ) استثناء منقطع .
وأصحاب اليمين هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك . فاليمين هو جهة أهل الكرامة في الاعتبار كجهة يمين العرش أو يمين مكان القدس يوم الحشر لا يحيط بها وصفنا وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك .
وقوله ( في جنات ) يجوز أن يكون متعلقا بقوله ( يتساءلون ) قدم للاهتمام و ( يتساءلون ) حال من ( أصحاب اليمين ) وهو مناط التفصيل الذي جيء لأجله بالاستثناء المنقطع .
ويجوز أن يكون في جنات خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم في جنات . والجملة استئناف بياني لمضمون جملة الاستثناء ويكون يتساءلون حالا من الضمير المحذوف