ومحل ( كذلك ) نصب بالنيابة عن المفعول المطلق لأن الجار والمجرور هنا صفة لمصدر محذوف دلت عليه الصفة والتقدير : يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالا وهديا وكذلك الإضلال والهدي . وليس هذا من قبيل قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) .
وقدم وصف المفعول المطلق للاهتمام بهذا التشبيه لما يرشد إليه من تفصيل عند التدبر فيه وحصل من تقديمه محسن الجمع ثم التقسيم إذ جاء تقسيمه بقوله ( يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) .
( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) كلمة جامعة لإبطال التخرصات التي يتخرصها الضالون ومرضى القلوب عند سماع الأخبار عن عالم الغيب وأمور الآخرة من نحو : ما هذا به أبو جهل في أمر خزنة جهنم يشمل ذلك وغيره فلذلك كان لهذه الجملة حكم التذييل .
والجنود : جمع جند وهو اسم لجماعة الجيش واستعير هنا للمخلوقات التي جعلها الله لتنفيذ أمره لمشابهتها الجنود في تنفيذ المراد .
وإضافة رب إلى ضمير النبي A إضافة تشريف وتعريض بأن من شأن تلك الجنود أن بعضها يكون به نصر النبي A . ونفي العلم هنا نفي للعلم التفصيلي بأعدادها وصفاتها وخصائصها بقرينة المقام فإن العلم بعدد خزنة جهنم قد حصل للناس بإعلام من الله لكنهم لا يعلمون ما وراء ذلك .
( وما هي إلا ذكرى للبشر [ 31 ] ) وفيه معان كثيرة أعلاها أن يكون هذا تتمة لقوله ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) على أن يكون جاريا على طريقة الأسلوب الحكيم أي أن النافع لكم أن تعلموا أن الخبر عن خزنة النار بأنهم تسعة عشر فائدته أن يكون ذكرى للبشر ليتذكروا دار العقاب بتوصيف بعض صفاتها لأن في ذكر الصفة عونا على زيادة استحضار الموصوف فغرض القرآن الذكرى وقد اتخذه الضالون ومرضى القلوب لهوا وسخرية ومراء بالسؤال عن جعلهم تسعة عشر ولم لم يكونوا عشرين أو مآت أو آلافا .
وضمير ( هي ) على هذا الوجه راجع إلى ( عدتهم ) .
ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكلام السابق وتأنيث ضميره لتأويله بالقصة أو الصفة أو الآيات القرآنية .
والمعنى : نظير المعنى على الاحتمال الأول .
ويحتمل أن يرجع إلى ( سقر ) وإنما تكون ( ذكرى ) باعتبار الوعيد بها وذكر أهوالها .
والقصر متوجه إلى مضاف محذوف يدل عليه السياق تقديره : وما ذكرها أو وصفها أو نحو ذلك .
ويحتمل أن يرجع ضمير هي إلى ( جنود ربك ) والمعنى المعنى والتقدير التقدير أي وما ذكرها أو عدة بعضها .
وجوز الزجاج أن يكون الضمير راجعا إلى نار الدنيا أي أنها تذكر الناس بنار الآخرة يريد أنه من قبيل قوله تعالى ( أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأته شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ) . وفيه محسن الاستخدام .
وقيل المعنى : وما عدتهم إلا ذكرى للناس ليعلموا غنى الله عن الأعوان والجند فلا يظلوا في استقلال تسعة عشر تجاه كثرة أهل النار A E وإنما حملت الآية هذه المعاني بحسن موقعها في هذا الموضع وهذا من بلاغة نظم القرآن . ولو وقعت أثر قوله ( لواحة للبشر ) لتمحض ضمير ( وما هي إلا ذكرى ) للعود إلى سقر وهذا من الإعجاز بمواقع جمل القرآن كما في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير .
وبين لفظ البشر المذكور هنا ولفظ البشر المتقدم في قوله ( لواحة للبشر ) لتجنيس التام .
( كلا ) ( كلا ) حرف ردع وإبطال . والغالب أن يقع بعد كلام من متكلم واحد أو من متكلم وسامع مثل قوله تعالى ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهديني ) فيفيد الردع عما تضمنه الكلام المحكي قبله . ومنه قوله تعالى ( كلا سنكتب ما يقول ) في سورة مريم ويجوز تقديمه على الكلام إذا أريد التعجيل بالردع والتشويق إلى سماع ما بعده وهو هنا محتمل لأن يكون إبطالا لما قبله من قولهم : فإذا أراد الله بهذا مثلا فيكون ما بينهما اعتراضا ويكون قوله ( والقمر ) ابتداء كلام فيحسن الوقوف على ( كلا ) . ويحتمل أن يكون حرف إبطال مقدما على الكلام الذي بعده من قوله ( إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر ) وتقديم اهتمام لإبطال ما يجيء بعده من مضمون قوله ( نذيرا للبشر ) أي من حقهم أن ينتذروا بها فلم ينتذر أكثرهم على نحو معنى قوله ( وأنى له الذكرى ) فيحسن أن توصل في القراءة بما بعدها