والمقصود من ذكره التمهيد لذكر مكابرة الذين في قلوبهم مرض والكافرين في سوء فهمهم لهذه العدة تمهيدا بالتعريض قبل التصريح لأنه إذا قيل ( ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) شعر الذين في قلوبهم مرض والكافرون بأنهم لما ارتابوا في ذلك فقد كانوا دون مرتبة الذين أوتوا الكتاب لأنهم لا ينازعون في أن الذين أوتوا الكتاب أرجح منهم عقولا وأسد قولا ولذلك عطف عليه ( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) أي ليقولوا هذا القول إعرابا عما في نفوسهم من الطعن في القرآن غير عالمين بتصديق الذين أوتوا الكتاب .
واللام لام العاقبة مثل التي في قوله تعالى ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) .
والمرض في القلوب : هو سوء النية في القرآن والرسول A وهؤلاء هم الذين لم يزالوا في تردد بين أن يسلموا وأن يبقوا على الشرك مثل الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة وليس المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون لأن المنافقين ما ظهروا إلا في المدينة بعد الهجرة والآية مكية .
و ( ماذا أراد الله ) استفهام إنكاري فإن ( ما ) استفهامية و ( ذا ) أصله اسم إشارة فإذا وقع بعد ( ما ) أو ( من ) الاستفهاميتين أفاد معنى الذي فيكون تقديره : ما الأمر الذي أراده الله بهذا الكلام في حال أنه مثل والمعنى : لم يرد الله هذا العدد الممثل به وقد كني بنفي إرادة الله العدد عن إنكار أن يكون الله قال ذلك والمعنى : لم يرد الله العدد الممثل به فكنوا بنفي إرادة الله وصف هذا العدد عن تكذيبهم أن يكون هذا العدد موافقا للواقع لأنهم ينفون فائدته وإنما أرادوا تكذيب أن يكون هذا وحيا من عند الله .
والإشارة بهذا إلى قوله ( عليها تسعة عشر ) .
و ( مثلا ) منصوب على الحال من هذا والمثل : الوصف أي بهذا العدد وهو تسعة عشر أي ما الفائدة في هذا العدد دون غيره مثل عشرين .
والمثل : وصف الحالة العجيبة أي ما وصفه من عدد خزنة النار كقوله تعالى ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) الآية .
وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى ( وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) في سورة البقرة .
( كذلك يضل الله من شاء ويهدي من يشاء ) اسم الإشارة عائد إلى ما تضمنه الكلام المتقدم من قوله ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) إلى قوله ( مثلا ) بتأويل ما تضمنه الكلام بالمذكور أي مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين والحاصل للذين أوتوا الكتاب بعد أن استيقنوا فلم يؤمنوا يضل الله من يشاء أن يضله من عباده مثل ذلك الهدى الذي اهتداه المؤمنون فزادهم إيمانا مع إيمانهم يهدي الله من يشاء .
A E والغرض من هذا التشبيه تقريب المعنى المعقول وهو تصرف الله تعالى بخلق أسباب الأحوال العارضة للبشر إلى المعنى المحسوس المعروف في واقعة الحال تعليما للمسلمين وتنبيها للنظر في تحصيل ما ينفع نفوسهم .
ووجه الشبه هو السببية في اهتداء من يهتدي وضلال من يضل في أن كلا من المشبه والمشبه به جعله الله سببا وإرادة لحكمة اقتضاها علمه تعالى فتفاوت الناس في مدى إفهامهم فيه بين مهتد ومرتاب مختلف المرتبة في ريبه ومكابر كافر وسيء فهم كافر .
وهذه الكلمة عظيمة في اختلاف تلقي العقول للحقائق وانتفاعهم بها أو ضده بحسب اختلاف قرائحهم وفهومهم وتراكيب جبلاتهم المتسلسلة من صواب إلى مثله أو من تردد واضطراب إلى مثله أو من حنق وعناد إلى مثله فانطوى التشبيه من قوله ( كذلك ) على أحوال وصور كثيرة تظهر في الخارج .
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى باعتبار أنه موجد الأسباب الأصلية في الجبلات واقتباس الأهواء وارتباط أحوال العالم بعضها ببعض ودعوة الأنبياء والصلحاء إلى الخير ومقاومة أيمة الضلال لتلك الدعوات . تلك الأسباب التي دلت بالضالين إلى ضلالهم وبالمهتدين إلى هداهم . وكل من خلق الله . فما على الأنفس المريدة الخير والنجاة إلا التعرض لأحد المهيعين بعد التجرد والتدبر ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .
ومشيئة الله في ذلك تعلق علمه بسلوك المهتدين والضالين