والذي أراه أن الملائكة التسعة عشر موزعون على دركات سقر أو جهنم لكل درك ملك فلعل هذه الدركات معين كل درك منها لأهل شعبة من شعب الكفر ومنها الدرك الأسفل الذي ذكره الله تعالى ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) في سورة النساء فإن الكفر أصناف منها إنكار وجود الله ومنها الوثنية ومنها الشرك بتعدد الآلهة ومنها عبادة الكواكب ومنها عبادة الشياطين والجن ومنها عبادة الحيوان ومنها إنكار رسالة الرسل ومنها المجوسية المانوية والمزدكية والزندقة وعبادة البشر مثل الملوك والإباحية ولو مع إثبات الإله الواحد .
وفي ذكر هذا العدد تحد لأهل الكتابين يبعثهم على تصديق القرآن إذ كان ذلك مما استأثر به علماؤهم كما سيأتي قوله ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) .
وقرأ الجمهور ( تسعة عشر ) بفتح العين من ( عشر ) . وقرأ أبو جعفر ( تسعة عشر ) بسكون العين من ( عشر ) تخفيفا لتوالي الحركات فيما هو كالاسم الواحد . ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم هذه القراءة فإنها متواترة .
( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) روى الطبري عن ابن عباس وجابر بن زيد " إن أبا جهل لما سمع قوله تعالى ( عليها تسعة عشر ) قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ؟ فقال الله تعالى ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) أي ما جعلناهم رجالا فيأخذ كل رجل رجلا فمن ذا يغلب الملائكة " اه .
وفي تفسير القرطبي عن السدي : أن أبا الأشد بن كلدة الجمحي قال مستهزئا : لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة وبمنكبي الأيسر تسعة ثم تمرون إلى الجنة وقيل : قال الحارث بن كلدة : أنا أكفيكم سبعة عشرة واكفوني أنتم اثنين يريد التهكم مع إظهار فرط قوته بين قومه .
فالمراد من ( أصحاب النار ) خزنتها وهم المتقدم ذكرهم بقوله ( عليها تسعة عشر ) .
والاستثناء من عموم الأنواع أي ما جعلنا خزنة النار من نوع إلا من نوع الملائكة .
A E وصيغة القصر تفيد قلب اعتقاد أبي جهل وغيره ما توهموه أو تظاهروا بتوهمه أن المراد تسعة عشر رجلا فطمع أن يخلص منهم هو وأصحابه بالقوة فقد قال أبو الأشد بن أسيد الجمحي : لا يبلغون ثوبي حتى أجهضهم عن جهنم أي أنحيهم .
وقوله تعالى ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) تتميم في إبطال توهم المشركين حقارة عدد خزنة النار وهو كلام جار على تقدير الأسلوب الحكيم إذ الكلام قد أثار في النفوس تساؤلا عن فائدة جعل خزنة جهنم تسعة عشر وهلا كانوا آلافا ليكون مرآهم أشد هولا على أهل النار أو هلا كانوا ملكا واحدا فإن قوى الملائكة تأتي كل عمل يسخرها الله له فكان جواب هذا السؤال : أن هذا العدد قد أظهر لأصناف الناس مبلغ فهم الكفار للقرآن . وإنما حصلت الفتنة من ذكر عددهم في الآية السابقة . فقوله ( وما جعلنا عدتهم ) تقديره : وما جعلنا ذكر عدتهم إلا فتنة ولاستيقان الذين أوتوا الكتاب وازدياد الذين آمنوا إيمانا واضطراب الذين في قلوبهم مرض فيظهر ضلال الضالين واهتداء المهتدين . فالله جعل عدة خزنة النار تسعة عشر لحكمة أخرى غير ما ذكر هنا اقتضت ذلك الجعل يعلمها الله .
والاستثناء مفرغ لمفعول ثان لفعل ( جعلنا ) تقديره جعلنا عدتهم فتنة لا غير ولما كانت الفتنة حالا من أحوال الذين كفروا لم تكن مراد منها ذاتها بل عروضها للذين كفروا فكانت حالا لهم .
والتقدير : ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلا لغرض فتنة الذين كفروا ؛ فانتصب ( فتنة ) على أنه مفعول ثان لفعل ( جعلنا ) على الاستثناء المفرغ وهو قصر قلب للرد على الذين كفروا إذ اعتقدوا أن عدتهم أمر هين