وعن مقاتل لما نزلت آية ( إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ) قالت قريش : إن كان ثمة جنة نعيم فلنا فيها مثل حظنا وحظهم في الدنيا وعن ابن عباس أنهم قالوا : إنا نعطى يومئذ خيرا مما تعطون فنزل قوله ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ) الآية .
والهمزة للاستفهام الإنكاري فرع إنكار التساوي بين المسلمين والكافرين على ما سبق من اختلاف جزاء الفريقين فالإنكار متسلط على ما دار بين المشركين من القول عند نزول الآية السابقة أو عند نزول ما سبقها من آي القرآن التي قابلت بين جزاء المؤمنين وجزاء المشركين كما يقتضيه صريحا قوله ( ما لكم كيف تحكمون ) إلى قوله ( إن لكم لما تحكمون ) .
وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الأخوة وحرمان المشركين منه لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب قال تعالى ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) وقال ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ) وقال ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) وقال السموأل أو الحارثي : .
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول وإذا انتفى أن يكون للمشركين حظ في جزاء الخير انتفى ما قالوه من أنهم أفضل حظا في الآخرة من المسلمين كما هو حالهم في الدنيا بطريق فحوى الخطاب .
وقوله ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ) كلام موجه إلى المشركين وهم المقصود ب ( المجرمين ) عبر عنهم بطريق الإظهار دون ضمير الخطاب لما في وصف ( المجرمين ) من المقابلة ليكون في الوصفين إيماء إلى سبب نفي المماثلة بين الفريقين .
فلذلك لم يكن ضمير الخطاب في قوله ( مالكم كيف تحكمون ) التفاتا عن ضمائر الغيبة من قوله ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) وقوله ( إنا بلوناهم ) .
A E وإنما تغير الضمير إلى ضمير الخطاب تبعا لتغير توجيه الكلام لأن شرط الالتفات أن يتغير الضمير في سياق واحد .
و ( مالكم ) استفهام إنكاري لحالة حكمهم ( فما لكم ) مبتدأ وخبر وقد تقدم في قوله تعالى ( قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله ) في سورة البقرة .
و ( كيف تحكمون ) استفهام إنكاري ثان في موضع الحال من ضمير ( لكم ) أي انتفى أن يكون لكم شيء في حال حكمكم أي فإن ثبت لهم كان منكرا باعتبار حالة حكمهم .
والمعنى : لا تحكمون أنكم مساوون للمسلمين في جزاء الآخرة أو مفضلون عليهم .
( أم لكم كتب فيه تدرسون [ 37 ] إن لكم فيه لما تخيرون [ 38 ] ) إضراب انتقال من توبيخ إلى احتجاج على كذبهم .
والاستفهام المقدر مع ( أم ) إنكار لأن يكون لهم كتاب إنكارا مبنيا على الفرض وإن كانوا لم يدعوه .
وحاصل هذا الانتقال والانتقالات الثلاثة بعده وهي ( أم لكم أيمان علينا ) الخ ( سلهم أيهم بذلك زعيم ) ( أم لهم شركاء ) الخ أن حكمكم هذا لا يخلو من أن يكون سنده كتابا سماويا نزل من لدنا وإما أن يكون سنده عهدا منا بأنا نعطيكم ما تقترحون وإما أن يكون لكم كفيل علينا وإما أن يكون تعويلا على نصر شركائكم .
وتقديم ( لكم ) على المبتدأ وهو ( كتاب ) لأن المبتدأ نكرة ونكيره مقصود للنوعية فكان تقديم الخبر لازما .
وضمير ( فيه ) عائد إلى الحكم المفاد من قوله ( كيف تحكمون ) أي كتاب في الحكم .
و ( في ) للتعليل أو الظرفية المجازية كما تقول ورد كتاب في الأمر بهذا أو في النهي عن كذا فيكون ( فيه ) ظرفا مستقرا صفة ل ( كتاب ) . ويجوز أن يكون الضمير عائد إلى ( كتاب ) ويتعلق المجرور بفعل ( تدرسون ) . جعلت الدراسة العميقة بمزيد التبصر في ما يتضمنه الكتاب بمنزلة الشيء المظروف في الكتاب كما تقول : لنا درس في كتاب سيبويه .
وفي هذا إدماج بالتعريض بأنهم أميون ليسوا أهل كتاب وأنهم لما جاءهم كتاب لهديهم وإلحاقهم بالأمم ذات الكتاب كفروا نعمته وكذبوه قال تعالى ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ) وقال ( أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) .
وجملة ( إن لكم فيه لما تخيرون ) في موضع مفعول ( تدرسون ) على أنها محكي لفظها أي تدرسون هذه العبارة كما جاء قوله تعالى ( وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين ) أي تدرسون جملة ( إن لكم لما تخيرون )