وجعلت علة إنزال الذكر إخراج المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإيمان والأعمال الصالحات نظرا لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماما بشأنهم . وليس ذلك بدال على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر . وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف .
( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا [ 11 ] ) عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات .
A E و ( صالحا ) نعت لموصوف محذوف دل عليه ( يعمل ) أي عملا صالحا وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته في سياق النفي . فالمعنى : ويعمل جميع الصالحات أي المأمور بها أمرا جازما بقرينة استقراء أدلة الشريعة .
وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن .
وجملة ( قد أحسن الله له رزقا ) حال من الضمير المنصوب في ( ندخله ) ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها .
والرزق : كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم أي رزقا عظيما .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ( ندخله ) بنون العظمة . وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله ( ومن يؤمن بالله ) وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات .
( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 12 ] ) اسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو الله . وهذا من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال كما سماه السكاكي فإنه بعد أن جرى ذكر شؤون من عظيم شؤون الله تعالى ابتداء من قوله ( واتقوا الله ربكم ) إلى هنا فقد تكرر اسم الجلالة وضميره والإسناد إليه زهاء ثلاثين مرة فاقتضى المقام عقب ذلك أن يزاد تعريف الناس بهذا العظيم ولما صار البساط مليئا بذكر اسمه صح حذفه عند الإخبار عنه إيجازا وقد تقدم عند قوله تعالى ( رب السماوات والأرض وما بينهما ) في سورة مريم وكذلك عند قوله ( صم بكم عمي ) وقوله ( مقام إبراهيم ) في سورة البقرة .
فالجملة على هذا الوجه مستأنفة استئنافا ابتدائيا .
والموصول صفة لاسم الجلالة وقد ذكرت هذه الصلة لما فيها من الدلالة على عظيم قدرته تعالى وعلى أن الناس وهم من جملة ما في الأرض عبيده فعليهم أن يتقوه ولا يتعدوا حدوده ويحاسبوا أنفسهم على مدى طاعتهم إياه فإنه لا تخفى عليه خافية وأنه قدير على إيصال الخير إليهم إن أطاعوه وعقابهم إن عصوه .
وفيه تنويه بالقرآن لأنه من جملة الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض .
والسبع السماوات تقدم القول فيها غير مرة وهي سبع منفصل بعضها عن الآخر لقوله تعالى في سورة نوح ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ) .
وقوله ( ومن الأرض مثلهن ) عطف على ( سبع سماوات ) وهو يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون المعطوف قوله ( من الأرض ) على أن يكون المعطوف لفظ الأرض ويكون حرف ( من ) مزيدا للتوكيد بناء على قول الكوفيين والأخفش أنه لا يشترط لزيادة ( من ) أن تقع في سياق النفي والنهي والاستفهام والشرط وهو الأحق بالقبول وإن لم يكن كثيرا في الكلام وعدم الكثرة لا ينافي الفصاحة والتقدير : وخلق الأرض ويكون قوله ( مثلهن ) حالا من ( الأرض ) .
ومماثلة الأرض للسماوات في دلالة خلقها على عظيم قدرة الله تعالى أي أن خلق الأرض ليس أضعف دلالة على القدرة من خلق السماوات لأن لكل منهما خصائص دالة على عظيم القدرة .
وهذا أظهر ما يؤول به الآية .
وفي إفراد لفظ ( الأرض ) دون أن يؤتى به جمعا كما أتي بلفظ السماوات إيذان بالاختلاف بين حاليهما .
الوجه الثاني : أن يكون المعطوف ( مثلهن ) ويكون قوله ( ومن الأرض ) بيانا للمثل فما صدق ( مثلهن ) هو ( الأرض ) . وتكون ( من ) بيانية وفيه تقديم البيان على المبين وهو وارد غير نادر