وعطف على قوله ( فاحذروهم ) جملة ( وإن تعفوا وتصفحوا ) إلى آخرها عطف الاحتراس لأنه إذا كان العفو مطلوبا محبوبا إلى الله تعالى وهو لا يكون إلا بعد حصول الذنب فإن عدم المؤاخذة على مجرد ظن العداوة أجدر بالطلب ففهم النهي عن معاملة الأزواج والأنباء معاملة الأعداء لأجل إيجاس العداوة بل المقصود من التحذير التوقي وأخذ الحيطة لابتداء المؤاخذة ولذلك قيل " الحزم سوء الظن بالناس " أي لكن دون أن يبنى على ذلك الظن معاملة من صدر منه ما ظننت به قال تعالى ( إن بعض الظن إثم ) وقال ( أن تصيبوا قوما بجهالة فتصحبوا على ما فعلتم نادمين ) .
والعفو : ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها . ولو مع توبيخ .
والصفح : الإعراض عن المذنب أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ .
والغفر : ستر الذنب وعدم إشاعته .
والجمع بينها هنا إيماء إلى تراتب آثار هذه العداوة وما تقتضيه آثارها من هذه المعاملات الثلاث . وحذف متعلق الأفعال الثلاثة لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم ويجوز أن يكون حذف المتعلق لإرادة عموم الترغيب في العفو .
وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقا بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة وفي أدلة الشريعة تقييدات لها .
وجملة ( فإن الله غفور رحيم ) دليل جواب الشرط المحذوف المؤذن بالترغيب في العفو والصفح والغفر فالتقدير وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا يحب الله ذلك منكم لأن الله غفور رحيم أي للذين يغفرون ويرحمون وجمع وصف رحيم الخصال الثلاث .
( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم [ 15 ] ) تذييل لأن فيه تعميم أحوال الأولاد بعد أن ذكر حال خاص ببعضهم .
وأدمج فيه الأموال لأنها لم يشملها طلب الحذر ولا وصف العداوة . وقدم ذكر الأموال على الأولاد لأن الأموال لم يتقدم ذكرها بخلاف الأولاد .
A E ووجه إدماج الأموال هنا أن المسلمين كانوا قد أصيبوا في أموالهم من المشركين فغلبوهم على أموالهم ولم تذكر الأموال في الآية السابقة لأن الغرض هو التحذير من أشد الأشياء اتصالا بهم وهي أزواجهم وأولادهم . ولأن فتنة هؤلاء مضاعفة لأن الداعي إليها يكون من أنفسهم ومن مساعي الآخرين وتسويلهم . وجرد عن ذكر الأزواج هنا اكتفاء لدلالة فتنة الأولاد عليهن بدلالة فحوى الخطاب فإن فتنتهن أشد من فتنة الأولاد لأن جرأتهن على التسويل لأزواجهن ما يحاولنه منهم أشد من جرأة الأولاد .
والقصر المستفاد من ( إنما ) قصر موصوف على صفة أي ليست أموالكم وأولادكم إلا فتنة . وهو قصر ادعائي للمبالغة في كثرة ملازمة هذه الصفة للموصوف إذ يندر أن تخلو أفراد هذين النوعين وهما أموال المسلمين وأولادهم عن الاتصاف بالفتنة لمن يتلبس بهما .
والإخبار ب ( فتنة ) للمبالغة . والمراد : أنهم سبب فتنة سواء سعوا في فعل الفتن أم لم يسعوا . فإن الشغل بالمال والعناية بالأولاد فيه فتنة .
ففي هذه الآية من خصوصيات علم المعاني التذييل والإدماج وكلاهما من الإطناب والاكتفاء وهو من الإيجاز وفيها الإخبار بالمصدر وهو ( فتنة ) والإخبار به من المبالغة فهذه أربعة من المحسنات البديعية وفيها القصر وفيها التعليل وهو من خصوصيات الفصل وقد يعد من محسنات البديع أيضا فتلك ست خصوصيات .
وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها اشتملت على التذييل والتعليل وكلاهما من مقتضيات الفصل .
والفتنة : اضطراب النفس وحيرتها من جراء أحوال لا تلائم من عرضت له وتقدم عند قوله تعالى ( والفتنة أشد من القتل ) في سورة البقرة .
أخرج أبو داود عن بريدة قال : ( إن رسول الله A كان يخطب يوم الجمعة حتى جاء الحسن والحسين يعثران ويقومان فنزل رسول الله A عن المنبر فأخذهما وجذبهما ثم قرأ " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " . وقال " رأيت هذين فلم أصبر ثم أخذ في خطبته " .
وذكر ابن عطية : أن عمر قال لحذيفة : كيف أصبحت فقال : أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق . فقال عمر : ما هذا ؟ فقال : أحب ولدي وأكره الموت