هذا زيادة تحد للمشركين وأحلافهم من أهل الكتاب فيه تقوية لمضمون قوله ( والله متم نوره ولو كره الكافرون ) وفيه معنى التعليل للجملة التي قبله . فقد أفاد تعريف الجزأين في قوله ( هو الذي أرسل رسوله ) قصرا إضافيا لقلب زعم الكافرين أن محمدا A أتى من قبل نفسه أي الله لا غيره أرسل محمدا A بالهدى ودين الحق . وأن شيئا تولى الله فعله لا يستطيع أحد أن يزيله .
وتعليل ذلك بقوله ( ليظهره على الدين كله ) إعلام بأن الله أراد ظهور هذا الدين وانتشاره كيلا يطمعوا أن يناله ما نال دين عيسى عليه السلام من القمع والخفت في أول أمره واستمر زمانا طويلا حتى تنصر قسطنطين سلطان الروم فلما أخبر الله بأنه أراد إظهار دين الإسلام على جميع الأديان علم أن أمره لا يزال في ازدياد حتى يتم المراد .
والإظهار : النصر ويطلق على التفضيل والإعلاء المعنوي .
والتعريف في قوله ( على الدين ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق أي ليعلي هذا الدين الحق على جميع الأديان وينصر أهله على أهل الأديان الأخرى الذين يتعرضون لأهل الإسلام .
ويظهر أن لفظ ( الدين ) مستعمل في كلا معنييه : المعنى الحقيقي وهو الشريعة . والمعنى المجازي وهو أهل الدين كما تقول : دخلت قرية كذا وأكرمتني فإظهار الدين على الأديان بكونه أعلى منها تشريعا وآدابا وأصلح بجميع الناس لا يخص أمة دون أخرى ولا جيلا دون جيل .
وإظهار أهله على أهل الأديان بنصر أهله على الذين يشاقونهم في مدة ظهوره حتى يتم أمره ويستغني عمن ينصره .
وقد تم وعد الله وظهر هذا الدين وملك أهله أمما كثيرة ثم عرضت عوارض من تفريط المسلمين في إقامة الدين على وجهه فغلبت عليهم أمم فأما الدين فلم يزل عاليا مشهودا له من علماء الأمم المتصفين بأنه أفضل دين للبشر .
A E وخص المشركون بالذكر هنا إتماما للذين يكرهون إتمام هذا النور وظهور هذا الذين على جميع الأديان . ويعلم أن غير المشركين يكرهون ظهور هذا الذين لأنهم أرادوا إطفاء نور الدين لأنهم يكرهون ظهور هذا الدين فحصل في الكلام احتباك .
( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم [ 10 ] تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [ 11 ] يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم [ 12 ] ) هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قوله ( يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) إلى قوله ( كأنهم بنيان مرصوص ) . فبعد أن ضربت لهم الأمثال وانتقل الكلام من مجال إلى مجال أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقوله ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذ قلتم لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أسلوب الخطابة .
والظاهر أن الضمير المستتر في ( أدلكم ) عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين . ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبي A على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتي ( وبشر المؤمنين ) .
والاستفهام مستعمل في العرض مجازا لأن العارض قد يسأل المعروض عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال : هل لك في كذا ؟ أو هل لك إلى كذا ؟ والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة . وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكاكي في المفتاح وهي غير منحصرة فيما ذكره .
وجيء بفعل ( أدلكم ) لإفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدي إليها بسهولة .
وأطلق على العمل الصالح لفظ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارة في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه وقد تقدم في قوله تعالى ( فما ربحت تجارتهم ) في سورة البقرة