فكانت وحيا نزل به جبريل فقرئ مع الآية التي نزل بأثرها وكذلك آية ( إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) عقب قوله تعالى ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ) إلى قوله ( وهم فيها خالدون ) في سورة البقرة إذ كان ردا على المشركين في قولهم : أما يستحي محمد أن يمثل بالذباب وبالعنكبوت ؟ فلما ضرب لهم الأمثال بقوله ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) تخلص إلى الرد عليهم فيما أنكروه من الأمثال . على أنه لا يعدم مناسبة ما وقد لا تكون له مناسبة ولكنه اقتضاه سبب في ذلك المكان كقوله تعالى ( لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) فهذه الآيات نزلت في سورة القيامة في خلال توبيخ المشركين على إنكارهم البعث ووصف يوم الحشر وأهواله وليست لها مناسبة بذلك ولكن سبب نزولها حصل في خلال ذلك . روى البخاري عن ابن عباس قال " كان رسول الله إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه يريد أن يحفظه فأنزل الله الآية التي في ( لا أقسم بيوم القيامة ) اه فذلك يفيد أن رسول الله A حرك شفتيه بالآيات التي نزلت في أول السورة .
على أنه قد لا يكون في موقع الآية من التي قبلها ظهور مناسبة فلا يوجب ذلك حيرة للمفسر ؛ لأنه قد يكون سبب وضعها في موضعها أنها قد نزلت على سبب وكان حدوث سبب نزولها في مدة نزول السورة التي وضعت فيها فقرئت تلك الآية عقب آخر آية انتهى إليها النزول وهذا كقوله تعالى ( حافظوا على الصلوات ) إلى قوله ( ما لم تكونوا تعلمون ) بين تشريعات أحكام كثيرة في شؤون الأزواج والأمهات وقد ذكرنا ذلك عند هذه الآية في التفسير .
وقد تكون الآية ألحقت بالسورة بعد تمام نزولها بأن أمر الرسول بوضعها عقب آية معينة كما تقدم آنفا عن ابن عباس في آية ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) وكذلك ما روى في صحيح مسلم عن ابن مسعود أن أول سورة الحديد نزل بمكة ولم يختلف المفسرون في أن قوله تعالى ( وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ) إلى آخر السورة نزل بالمدينة فلا يكون ذلك إلا لمناسبة بينها وبين آي تلك السورة والتشابه في أسلوب النظم وإنما تأخر نزول تلك الآية عن نزول أخواتها من سورتها لحكمة اقتضت تأخرها ترجع غالبا إلى حدوث سبب النزول كما سيأتي قريبا .
ولما كان تعيين الآيات التي أمر النبي A بوضعها في موضع معين غير مروي إلا في عدد قليل كان حقا على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا وإلا فليعرض عنه ولا يكن من المتكلفين .
إن الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها . فإصلاح كفارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة الضالة واتباع الإيمان والإسلام وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طريق النجاح وتزكية نفوسهم ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدة الدعوة فكانت آيات القرآن مستقلا بعضها عن بعض لأن كل آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه وتكميله وتخليصه من تسرب الضلالات إليه فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك ؛ فإن كل جملة تشتمل على حكمة وإرشاد أو تقويم معوج كقوله ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ) إلى قوله ( قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ) فقوله ( قل إن الهدى هدى الله ) جملة معترضة .
وقوف القرآن .
A E