زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) كان للمنافقين قرابة بكثير من أصحاب النبي A وكان نفاقهم لا يخفى على بعضهم فحذر الله المؤمنين الخالصين من موادة من يعادي الله ورسوله A .
ورويت ثمانية أقوال متفاوتة قوة أسانيد أقصاها القرطبي في نزول هذه الآية وليس يلزم أن يكون للآية سبب نزول فإن ظاهرها أنها متصلة المعنى بما قبلها وما بعدها من ذم المنافقين وموالاتهم اليهود فما ذكر فيها من قصص لسبب نزولها فإنما هو أمثلة لمقتضى حكمها .
وافتتاح الكلام ب ( لا تجد قوما ) يثير تشويقا إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم .
والخطاب للنبي A . والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادة من يعلم أنه محاد الله ورسوله هي مما ينافي الإيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبسا بها . فالكلام من قبل الكناية عن السعي في نفي وجدان قوم هذه صفتهم من قبيل قولهم : لا أرينك ها هنا أي لا تحضر هنا .
ومنه قوله تعالى ( قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) أراد بما لا يكون لأن ما لا يعلمه الله لا يجوز أن يكون موجودا وكانت هذه عادة المؤمنين قبل الهجرة أيام كانوا بمكة . وقد نقلت أخبار من شواهد ذلك متفاوتة القوة ولكن كان الكفر أيامئذ مكشوفا والعداوة بين المؤمنين والمشركين واضحة . فلما انتقل المسلمون إلى المدينة كان الكفر مستورا في المنافقين فكان التحرز من موادتهم أجدر وأحذر .
والموادة أصلها : حصول المودة في جانبين . والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودة وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتبارا بأن شأن الود أن يجلب ودا من المودود للواد .
A E وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الود صادقا لأن الواد الصادق يقابله المودود بمثله . ويعرف ذلك بشواهد المعاملة وقرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله A ولذلك لم يقل الله هنا ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) لأن المودة من أحوال القلب فلا تتصور معها التقية بخلاف قوله ( لا يتخذ المؤمنين الكافرون أولياء من دون المؤمنين ) إلى قوله ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) .
وقوله ( ولو كانوا آباءهم ) إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد تقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة .
ثم أن الذي يحاد الله ورسوله A إن كان متجاهرا بذلك معلنا به أو متجاهرا بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوة دنيوية فالواجب على المسلمين إظهار عداوته قال تعالى ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) ولم يرخص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتقاء شرهم إن كان لهم بأس قال تعالى ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تقوا منهم تقاة ) .
وأما م عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شره عن المسلمين قال تعالى ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) .
ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بين شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البر والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ) وأن لكل منهما حالتها .
ف ( لو ) وصلية وتقدم بيان معنى ( لو ) الوصلية عند قوله تعالى ( فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به ) في سورة آل عمران ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره