وثبتت أخبار صحاح عن النبي A تدل على أن عمل أحد عن آخر يجزى عن المنوب عنه ففي الموطأ حديث الفضل بن عباس " أن امرأة من خثعم سألت رسول الله A فقالت : إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه ؟ قال : نعم حجي عنه " . وفي قولها : لا يثبت على الرحلة دلالة على أن حجها عنه كان نافلة .
وفي كتاب أبي داود حديث بريدة " أن امرأة أتت رسول الله A فقالت : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفيجزئ أو يقضي عنها أن أصوم عنها ؟ قال : نعم . قالت : وإنها لم تحج أفيجزئ أو يقضي أن أحج عنها ؟ قال : نعم " .
وفيه أيضا حديث ابن عباس " أن رجلا قال : يا رسول الله إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم " .
وفي حديث عمرو ابن العاص وقد اعتق أخوه هشام عن أبيهم العاص بن وائل عبيدا فسأل عمرو رسول الله A عن أن يفعل مثل فعل أخيه فقال له " لو كان أبوك مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك " .
وروي أن عائشة أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته رقابا واعتكفت عنه .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر وابن عباس " أنهما أفتيا امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بمسجد قباء ولم تف بنذرها أن تصلي عنها بمسجد قباء " .
وأمر النبي A سعد ابن عبادة أن يقضي نذرا نذرته أمه قيل كان عتقا وقيل صدقة وقيل نذرا مطلقا .
وقد كانت هذه الآية وما ثبت من الأخبار مجالا لأنظار الفقهاء في الجمع بينهما والأخذ بظاهر الآية وفي الاقتصار على نوع ما ورد فيه الإذن من النبي A أو القياس عليه .
ومما يجب تقديمه أن تعلم أن التكاليف الواجبة على العين فرضا أو سنة مرتبة المقصد من مطالبة المكلف بها ما يحصل بسببها من تزكية نفسه ليكون جزءا صالحا فإذا قام بها غيره عنه فات المقصود من مخاطبة أعيان المسلمين بها وكذا اجتناب المنهيات لا تتصور فيها النيابة لأن الكف لا يقبل التكرر فهذا النوع ليس للإنسان فيه إلا ما سعى ولا تجزىء فيه نيابة غيره عنه في أدائها فأما الإيمان فأمره بين لأن ماهية الإيمان لا يتصور فيها التعدد بحيث يؤمن أحد عن نفسه ولا يؤمن من غيره لأنه إذا اعتقد اعتقادا جازما فقد صار ذلك إيمانه . قال ابن الفرس في أحكام القرآن : " أجمعوا على أنه لا يؤمن أحد عن أحد " .
وأما ما عدا الإيمان من شرائع الإسلام الواجبة فأما ما هو منها من عمل الأبدان فليس للإنسان إلا ما سعى منه ولا يجزئ عنه سعي غيره لأن المقصود من الأمور العينية المطالب بها المرء بنفسه هو ما فيها من تزكية النفس وارتياضها على الخير كما تقدم آنفا .
ومثل ذلك الرواتب من النوافل والقربات حتى يصلح الإنسان ويرتاض على مراقبة ربه بقلبه وعمله والخضوع له تعالى ليصلح بصلاح الأفراد صلاح مجموع الأمة والنيابة تفيت هذا المعنى .
فما كان من أفعال الخير غير معين بالطلب كالقرب النافلة فإن فيه مقصدين مقصد ملحق بالمقصد الذي في الأعمال المعينة بالطلب ومقصد تكثير الخير في جماعة المسلمين بالأعمال والأقوال الصالحة وهذا الاعتبار الثاني لا تفيته النيابة .
والتفرقة بين ما كان من عمل الإنسان ببدنه وما كان من عمله بماله لا أراه فرقا مؤثرا في هذا الباب فالوجه اطراد القول في كلا النوعين بقبول النيابة أو بعدم قبولها : من صدقات وصيام ونوافل الصلوات وتجهيز الغزاة للجهاد غير المتعين على المسلم المجهز " بكسر الهاء " ولا على المجهز " بفتح الهاء " والكلمات الصالحة في قراءة القرآن وتسبيح وتحميد ونحوهما وصلاة على النبي A وبهذا يكون تحرير محل ما ذكره ابن الفرس من الخلاف في نقل عمل أحد إلى غيره .
قال النووي " الدعاء يصل ثوابه إلى الميت وكذلك الصدقة وهما مجمع عليهما . وكذلك قضاء الدين " اه . وحكى ابن الفرس مثل ذلك والخلاف بين علماء الإسلام فيما عدا ذلك .
A E