وأما قوله في التوراة أن الله قال " أفتقد الأبناء بذنوب الآباء إلى الجيل الثالث " فذلك في ترتيب المسببات على الأسباب الدنيوية وهو تحذير .
وليس حمل المتسبب في وزر غيره حملا زائدا على وزره من قبيل تحمل وزر الغير ولكنه من قبيل زيادة العقاب لأجل تضليل الغير قال تعالى ( ليحملوا أوزارهم يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) . وفي الحديث " ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل " ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 39 ] ) عطف على جملة ( أن لاتزر وازرة وزر أخرى ) فيصح أن تكون عطفا على المجرور بالباء فتكون ( أن ) مخففة من الثقيلة ويصح أن تكون عطفا على ( أن لاتزر وازرة وزر أخرى فتكون ( أن ) تفسيرية وعلى كلا الاحتمالين تكون ( أن ) تأكيدا لنظيرتها في المعطوف عليها .
وتعريف ( الإنسان ) تعريف الجنس ووقوعه في سياق النفي يفيد العموم والمعنى : لا يختص به إلا ما سعاه .
والسعي : العمل والاكتساب وأصل السعي : المشي فأطلق على العمل مجازا مرسلا أو كناية . والمراد هنا عمل الخير بقرينة ذكر لام الاختصاص وبأن جعل مقابلا لقوله ( أن لا تزر وازرة وزر أخرى ) .
والمعنى : لا تحصل لأحد فائدة عمل إلا ما عمله بنفسه فلا يكون عمل غيره ولام الاختصاص يرجع أن المراد ما سعاه من الأعمال الصالحة وبذلك يكون ذكر هذا تتميما لمعنى ( أن لا تزر وازرة وزر أخرى ) احتراسا من أن يخطر بالبال أن المدفوع عن غير فاعله هو الوزر وإن الخير ينال غير فاعله .
ومعنى الآية محكي في القرآن عن إبراهيم في قوله عنه ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) .
وهذه الآية حكاية عن شرعي إبراهيم وموسى وإذ قد تقرر أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ تدل هذه الآية على أن عمل أحد لا يجزئ عن أحد فرضا أو نفلا على العين وأما تحمل أحد حمالة لفعل فعله غيره مثل ديات القتل الخطأ فذلك من المؤاساة المفروضة .
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ومحملها : فعن عكرمة أن قوله تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) حكاية عن شريعة سابقة فلا تلزم في شريعتنا يريد أن شريعة الإسلام نسخت ذلك فيكون قبول عمل أحد عن غيره من خصائص هذه الأمة .
وعن الربيع بن أنس أنه تأول الإنسان في قوله تعالى ( وإن ليس للإنسان إلا ما سعى ) بالإنسان الكافر وأما المؤمن فله سعيه وما يسعى له غيره .
ومن العلماء من تأول الآية على أنها نفت أن تكون للإنسان فائدة ما عمله غيره إذا لم يجعل الساعي عمله لغيره . وكأن هذا ينحو إلى أن استعمال ( سعى ) في الآية من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه العقليين . ونقل ابن الفرس : أن من العلماء من حمل الآية على ظاهرها وأنه لا ينتفع أحد بعمل غيره ويؤخذ من كلام ابن الفرس أن ممن قال بذلك الشافعي في أحد قوليه بصحة الإجارة على الحج .
واعلم أن أدلة لحاق ثواب بعض العمال إلى غير من عملها ثابتة على الجملة وإنما تتردد الأنظار في التفصيل أو التعميم وقد قال اله تعالى ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) وقد بيناه في تفسير سورة الطور . وقال تعالى ( ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ) فجعل أزواج الصالحين المؤمنات وأزواج الصالحات المؤمنين يتمتعون في الجنة مع أن التفاوت بين الأزواج في الأعمال ضروري وقد بيناه في تفسير سورة الزخرف .
وفي حديث مسلم " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له " وهو عام في كل ما يعمله الإنسان ومعيار عمومه الاستثناء فالاستثناء دليل عن أن المستثنيات الثلاثة هي من عمل الإنسان . وقال عياض في الإكمال هذه الأشياء لما كان هو سببها فهي من اكتسابه . قلت : وذلك في الصدقة الجارية وفي العلم الذي بثه ظاهر وأما في دعاء الولد الصالح لأحد أبويه فقال النووي لأن الولد من كسبه . قال الأبي : الحديث " ولد الرجل من كسبه " فاستثناء هذه الثلاثة متصل .
A E