والمعنى : لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أولا تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها أو إظهارها للناس ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب مصلحة عامة كما قال يوسف ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) . وعن الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع ( أنفسكم ) إلى معنى قومكم أو جماعتكم مثل قوله تعالى ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) أي ليسلم بعضكم على بعض . والمعنى : فلا يثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يغيره ذلك .
وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم . ومنه حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ودخل عليه رسول الله A فقالت أم عطية " رحمة الله عليك أبا السائب " كنية عثمان بن مظعون " فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال لها رسول الله A : وما يدريك أن الله أكرمه فقالت : إذا لم يكرمه الله فمن يكرمه الله فقال رسول الله A أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي . قالت أم عطية : فلا أزكي أحدا بعد ما سمعت هذا من رسول الله A . وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التحرز من التزكية وكانوا يقولون : إذ أثنوا على أحد لا أعلم عليه إلا خيرا ولا أزكي على الله أحدا .
وروى مسلم عن محمد بن عمرو وبن عطاء قال : " سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت بن سلمة إن رسول الله نهى عن هذا الاسم . وسميت برة فقال رسول الله A لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم قالوا : بم نسميها ؟ قال : سموها زينب " .
وقد ظهر أن النهي متوجه إلى أن يقول أحد ما يفيد زكاء النفس أي طهارتها وصلاحها تفويضا بذلك إلى الله لأن للناس بواطن مختلفة الموافقة لظواهرهم وبين أنواعها بون . وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخبرة واتهام القرائن والبوارق .
فلا يدخل في هذا النهي الإخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية وقد يعبر عن التعديل بالتزكية وهو لفظ لا يراد به مثلما أريد من قوله تعالى ( فلا تزكوا أنفسكم ) بل هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن ومرادهم منه واضح .
ووقعت جملة ( هو ألم بمن اتقى ) موقع البيان لسبب النهي أو لأهم أسبابه أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها . وهذا معنى ما ورد في الحديث أن يقول من يخبر عن أحد بخير " لا أزكي على الله أحدا " أي لا أزكي أحدا معتليا حق الله أي متجاوزا قدري .
( أفرأيت الذي تولى [ 33 ] وأعطى قليلا وأكدى [ 34 ] أعنده علم الغيب فهو يرى [ 35 ] ) الفاء لتفريع الاستفهام التعجيبي على قوله ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) إذ كان حال هذا الذي تولى وأعطى قليلا وأكدا جهلا بأن للإنسان ما سعى وقد حصل في وقت نزول الآية المتقدمة أو قبلها حادث أنبأ عن سوء الفهم لمراد الله من عباده مع أنه واضح لمن صرف حق فهمه . ففرع على ذلك كله تعجيب من انحراف أفهامهم .
A E