الخطاب للمؤمنين ووقوعه عقب قوله ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ينبئ عن اتصال معناه بمعنى ذلك فهو غير موجه لليهود كما في أسباب النزول للواحدي وغيره . وأصله لعبد الله بن لهيعة عن ثابت بن حارث الأنصاري . قال : " كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير يقولون : هو صديق فبلغ ذلك النبي A فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد " فأنزل الله هذه الآية . وعبد الله بن لهيعة ضعفه ابن معين وتركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي . وقال الذهبي : العمل على تضعيفه قلت : لعل أحد رواة هذا الحديث لم يضبط فقال : فانزل الله هذه الآية وإنما قرأها رسول الله A أخذا بعموم قوله ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ) الخ حجة عليهم وإلا فإن السورة مكية والخوض مع اليهود إنما كان بالمدينة .
وقال ابن عطية : حكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم . وكأن الباعث على تطلب سبب لنزولها قصد إبداء وجه اتصال قوله ( فلا تزكوا أنفسكم ) بما قبله وما بعده وأنه استيفاء لمعنى سعة المغفرة ببيان سعة الرحمة واللطف بعباده إذ سلك بهم مسلك اليسر والتخفيف فعفا عما لو أخذهم به لأحرجهم فقوله ( هو أعلم بكم ) نظير قوله ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) الآية ثم يجيء الكلام في التفريع بقوله ( فلا تزكوا أنفسكم ) .
فينبغي أن تحل جملة ( هو أعلم بكم ) إلى آخرها استئنافا بيانيا لجملة ( إن ربك واسع المغفرة ) لما تضمنته جملة ( إن ربك واسع المغفرة ) من الامتنان فكأن السامعين لما يسمعوا ذلك الامتنان شكروا الله وهجس في نفوسهم خاطر البحث عن سبب هذه الرحمة بهم فأجيبوا بأن ربهم أعلم بحالهم من أنفسهم فهو يدبر لهم ما لا يخطر ببالهم ونظيره ما في الحديث القدسي قال الله تعالى ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر خيرا من بله ما اطلعتم عليه .
وقوله ( إذ أنشأكم ) ظرف متعلق ب ( أعلم ) أي هو أعلم بالناس من وقت إنشائه إياهم من الأرض وهو وقت خلق أصلهم آدم .
والمعنى : أن إنشاءهم من الأرض يستلزم ضعف قدرهم عن تحمل المشاق مع تفاوت أطوار نشأة بني آدم فالله علم ذلك وعلم أن آخر الأمم وهي أمة النبي A أضعف الأمم . وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الإسراء من قول موسى لمحمد عليهما السلام حين فرض الله على أمته خمسين صلاة " إن أمتك لا تطيق ذلك وأني جربت بني إسرائيل " أي وهم أشد من أمتك قوة فالمعنى أن الضعف المقتضي لسعة التجاوز بالمغفرة مقررفي علم الله من حين إنشاء آدم من الأرض بالضعف الملازم لجنس البشر على تفاوت فيه قال تعالى ( وخلق الإنسان ضعيفا ) فإن إنشاء أصل الإنسان من الأرض وهي عنصر ضعيف يقتضي ملازمة الضعف لجميع الأفراد المنحدرة من ذلك الأصل . ومنه قول النبي A " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج " .
وقوله ( وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ) يختص بسعة المغفرة والرفق بهذه الأمة وهو مقتضى قوله تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) .
والأجنة : جمع جنين وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث .
و ( في بطون أمهاتكم ) صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه .
وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيرا باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار .
وجملة ( فلا تزكوا أنفسكم ) اعتراض بين جملة ( هو أعلم بكم ) وجملة ( أفرأيت الذي تولى ) الخ والفاء لتفريع الاعتراض وهو تحذير للمؤمنين من العجب بأعمالهم الحسنة عجبا يحدثه المرء في نفسه أو يدخله أحد على غيره بالثناء عليه بعمله .
و ( تزكوا ) مضارع زكى الذي هو من التضعيف المراد منه نسبة المفعول إلى أصل الفعل نحو جهله أي لا تنسبوا لأنفسكم الزكاة .
فقوله ( أنفسكم ) صادق بتزكية المرء نفسه في سره أو علانيته فرجع الجمع في قوله ( فلا تزكوا ) إلى مقابلة الجمع بالجمع التي تقتضي التوزيع على الآحاد مثل : ركب القوم دوابهم .
A E