والفاء لتفصيل ( علمه ) والمستوي هو جبريل . ومعنى استوائه : قيامه بعزيمة لتلقي رسالة الله كما يقال : استقل قائما ومثل : بين يدي فلان فاستواء جبريل هو مبدأ التهيؤ لقبول الرسالة من عند الله ولذلك قيد هذا الاستواء بجملة الحال في قوله ( وهو بالأفق الأعلى ) . والضمير لجبريل لا محالة أي قبل أن ينزل إلى العالم الأرضي .
والأفق : اسم للجو الذي يبدو للناظر ملتقى بين طرف منتهى النظر من الأرض وبين منتهى ما يلوح كالقبة الزرقاء وغلب إطلاقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه أفق المشرق وأفق المغرب .
ووصفه ب ( الأعلى ) في هذه الآية يفيد أنه ناحية من جو السماء . وذكر هذا ليرتب عليه قوله ( ثم دنا فتدلى ) .
و ( ثم ) عاطفة على جملة ( فاستوى ) والتراخي الذي تقيده ( ثم ) تراخ رتبي لأن الدنو يبلغ الوحي هو الأهم في هذا المقام .
والدنو : القرب وإذ قد كان فعل الدنو قد عطف ب ( ثم ) على ( استوى بالأفق الأعلى ) علم أنه دنا إلى العالم الأرضي أي أخذ في الدنو بعد أن تلقى ما يبلغه إلى الرسول A .
وتدلى : انخفض من علو قليلا أي ينزل من طبقات إلى ما تحتها كما يتدلى الشيء المعلق في الهواء بحيث لو رآه الرائي يحسبه متدليا وهو ينزل من السماء غير منقض .
وقاب وقيل معناه : قدر . وهو واوي العين ويقال : قاب وقيب بكسر القاف وهذا ما درج عليه أكثر المفسرين . وقيل يطلق القاب على ما بين مقبض القوس " أي وسط عوده المقوس وما بين سيتيها " أي طرفيها المنعطف الذي يشد به الوتر " فللقوس قابان وسيتان ولعل هذا الإطلاق هو الأصل للآخر وعلى هذا المعنى حمل الفراء والزمخشري وابن عطية وعن سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ولكل قوس قاب واحد .
وعلى كلا التفسيرين فقوله ( قاب قوسين ) أصله قابي قوس أو قابي قوسين " بتثنية أحد اللفظين المضاف والمضاف إليه أو كليهما " فوقع إفراد أحد اللفظين أو كليهما تجنبا لثقل المثنى كما في قوله تعالى ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) أي قلباكما .
وقيل يطلق القوس في لغة أهل الحجاز على ذراع يذرع به " ولعله ذا مصدر قاس فسمي به ما يقاس به " .
والقوس : آلة من عود نبع مقوسة يشد بها وتر من جلد ويرمي عنها السهام . والنشاب وهي في مقدار الذراع عند العرب .
A E وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي A الدال عليه التفريع بقوله ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي A بالنبوة فكانت قواه البشرية يومئذ غير معتادة لتمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقا بالنبي A أن لا يتجشم شيئا يشق عليه ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغط قال النبي A " فغطني حتى بلغ مني الجهد " ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثر وسورة المزمل قال تعالى ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة أنه " جلس إلى النبي A فأسند ركبتيه إلى ركبتيه " إذ كان النبي A أيامئذ بالمدينة وق اعتاد الوحي وفارقته شدته ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبي A في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيان الإيمان والإسلام بقوله " إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد " الحديث وأن النبي A قال لهم بعد مفارقته " يا عمر أتدري من السائل ؟ قال عمر : الله ورسوله أعلم قال : " فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " .
وقوله ( أو أدنى ) ( أو ) فيه للتخيير للتقدير وهو مستعمل في التقريب أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخير بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى أي لا أزيد إشارة إلى أن التقرير لا مبالغة فيه