واعلم أن تنزيهه A عن النطق عن هوى يقتضي التنزيه عن أن يفعل أو يحكم عن هوى لأن التنزه عن النطق عن هوى أعظم مراتب الحكمة . ولذلك ورد في صفة النبي A " أنه يمزح ولا يقول إلا حقا " . وهنا تم إبطال قولهم فحسن الوقف على قوله ( وما ينطق عن الهوى ) .
وبين ( هوى ) و ( الهوى ) جناس شبه التام .
( إن هو إلا وحي يوحى [ 4 ] علمه شديد القوى [ 5 ] ذو مرة فاستوى [ 6 ] وهو بالأفق الأعلى [ 7 ] ثم دنا فتدلى [ 8 ] فكان قاب قوسين أو أدنى [ 9 ] فأوحى إلى عبده ما أوحى [ 10 ] ) استئناف بياني لجملة ( وما ينطق عن الهوى ) .
وضمير ( هو ) عائد إلى المنطوق به المأخوذ من فعل ( ينطق ) كما في قوله تعالى ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي العدل المأخوذ من فعل ( اعدلوا ) .
ويجوز أن يعود الضمير إلى معلوم من سياق الرد عليهم لأنهم زعموا في أقوالهم المردودة بقوله ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) زعموا القرآن سحرا أو شعرا أو كهانة أو أساطير الأولين أو إفكا افتراه .
وإن كان النبي A ينطق بغير القرآن عن وحي كما في حديث الحديبية في جوابه للذي سأله : وما يفعل المعتمر ؟ وكقوله " إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها " ومثل جميع الأحاديث القدسية التي فيها قال الله تعالى ونحوه .
وفي سنن أبي داود والترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب قال رسول الله A " أني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه " .
وقد ينطق عن اجتهاد كأمره بكسر القدور التي طبخت فيها الحمر الأهلية فقيل له : أونهريقها ونغسلها ؟ فقال : أو ذاك .
فهذه الآية بمعزل عن إيرادها في الاحتجاج لجواز الاجتهاد للنبي A لأنها كان نزولها في أول أمر الإسلام وإن كان الأصح أن يجوز له الاجتهاد وأنه وقع منه وهي من مسائل أصول الفقه .
والوحي تقدم عند قوله تعالى ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ) في سورة النساء . وجملة ( يوحى ) مؤكدة لجملة ( إن هو إلا وحي ) مع دلالة المضارع على أن ما ينطق به متجدد وحيه غير منقطع .
ومتعلق ( يوحى ) محذوف تقديره : إليه أي إلى صاحبكم .
A E وترك فاعل الوحي لضرب من الإجمال الذي يعقبه التفصيل لأنه سيرد بعده ما يبينه من قوله ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) .
وجملة ( علمه شديد القوى ) الخ مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان كيفية الوحي .
وضمير الغائب في ( علمه ) عائد إلى الوحي أو إلى ما عاد إليه ضمير ( هو ) من قوله ( إن هو إلا وحي ) . وضمير ( هو ) يعود إلى القرآن وهو ضمير في محل أحد مفعولي ( علم ) وهو المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف والتقدير : علمه إياه يعود إلى ( صاحبكم ) ويجوز جعل هاء ( علمه ) عائدا إلى ( صاحبكم ) والمحذوف عائد إلى ( وحي ) إبطالا لقول المشركين ( إنما يعلمه بشر ) .
و ( علم ) هنا متعد إلى مفعولين لأنه مضاعف ( علم ) المتعدي إلى مفعول واحد .
و ( شديد القوى ) : صفة لمحذوف يدل عليه ما يذكر بعد مما هو من شؤون الملائكة أي ملك شديد القوى . واتفق المفسرون على أن المراد به جبريل عليه السلام .
والمراد ب ( القوى ) استطاعة تنفيذ ما يأمر الله به من الأعمال العظيمة العقلية والجسمانية فهو الملك الذي ينزل على الرسل بالتبليغ .
والمرة بكسر الميم وتشديد الراء المفتوحة تطلق على قوة الذات وتطلق على متانة العقل وأصالته وهو المراد هنا لأنه قد تقدم قبله ووصف بشديد القوى وتخصيص جبريل بهذا الوصف يشعر بأنه الملك الذي ينزل بفيوضات الحكمة على الرسل والأنبياء ولذلك لما ناول الملك رسول الله A ليلة الإسراء كأس لبن وكأس خمر فاختار اللبن قال له جبريل : اخترت الفطرة ولو أخذت الخمر غوت أمتك .
وقوله ( فاستوى ) مفرع على ما تقدم من قوله ( علمه شديد القوى )