وسلك في نفي علمهم بالغيب طريق التهكم بهم بإنكار أن يكون لهم سلم يرتقون به إلى السماء ليستمعوا ما يجري في العالم العلوي من أمر تتلقاه الملائكة أو أهل الملأ الأعلى بعضهم مع بعض فيسترقوا بعض العلم مما هو محجوب عن الناس إذ من المعلوم أنه لا سلم يصل أهل الأرض بالسماء وهم يعلمون ذلك ويعلمه كل أحد .
وعلم من اسم السلم أنه آلة الصعود وعلم من ذكر السماوات في الآية قبلها أن المراد سلم يصعدون به إلى السماء فلذلك وصف ب ( يستمعون فيه ) أي يرتقون به إلى السماء فيستمعون وهم فيه أي في درجاته الكلام الذي يجري في السماء . و ( فيه ) ظرف مستقر حال من ضمير ( يستمعون ) أي وهم كائنون فيه لا يفارقونه إذ لا يفرض أنهم ينزلون منه إلى ساحات السماء .
وإسناد الاستماع إلى ضمير جماعتهم على اعتبار أن المستمع سفير عنهم على عادة استعمال الكلام العربي من إسناد فعل بعض القبيلة إلى جميعها إذا لم تصله عن عمله في قولهم : قتلت بنو أسد حجرا ألا ترى أنه قال بعد هذا ( فليأت مستمعهم ) أي من استمع منهم لأجلهم أي أرسلوه للسمع . ومثل هذا الإسناد شائع في القرآن وتقدم عند قوله تعالى ( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ) وما بعده من الآيات في سورة البقرة .
و ( في ) للظرفية وهي ظرفية مجازية اشتهرت حتى ساوت الحقيقة لأن الراقي في السلم يكون كله عليه فالسلم له كالظرف للمظروف وإذ كان في الحقيقة استعلاء ثم شاع في الكلام فقالوا : صعد في السلم ولم يقولوا : صعد على السلم ولذاك اعتبرت ظرفية حقيقية أي حقيقة عرفية بخلاف الظرفية في قوله تعالى ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) لأنه لم يشتهر أن يقال : صلبه في جذع بل يقال : صلبه على جذع فلذلك كانت استعارة فلا منافاة بين قول من زعم أن الظرفية مجازية وقول من زعمها حقيقة .
والفاء في ( فليأت مستمعهم بسلطان مبين ) لتفريع هذا الأمر التعجيزي على النفي المستفاد من استفهام الإنكار . فالمعنى : فما يأتي مستمع منهم بحجة تدل على صدق دعواهم . فلام الأمر مستعمل في إرادة التعجيز بقرينة انتفاء أصل الاستماع بطريق استفهام الإنكار .
والسلطان : الحجة أي حجة على صدقهم في نفي رسالة محمد A أو في كونه على وشك الهلاك .
والمراد بالسلطان ما يدل على إطلاعهم على الغيب من أمارات كأن يقولوا : آية صدقنا فيما ندعيه وسمعناه من حديث الملأ الأعلى أننا سمعنا أنه يقع غدا حادث كذا وكذا مثلا مما لا قبل للناس بعلمه فيقع كما قالوا ويتوسم منه صدقهم فيما عداه . وهذا معنى وصف السلطان المبين أي المظهر لصحة الدعوى .
وهذا تحد لهم بكذبهم فلذلك اكتفى بأن يأتي بعضهم بحجة دون تكليف جميعهم بذلك على نحو قوله ( فأتوا بسورة مثله ) أي فليأت من يتعهد منهم بالاستماع بحجة . وهذا بمنزلة التذييل للكلام على نحو ما تقدم في قوله ( قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ) وقوله ( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) .
( أم له البنات ولكم البنون [ 39 ] ) لما جرى نفي أن تكون لهم مطالعة الغيب من الملأ الأعلى إبطالا لمقالاتهم في شؤون الربوبية أعقب ذلك بإبطال نسبتهم لله بنات استقصاء لإبطال أوهامهم في المغيبات من العالم العلوي فهذه الجملة معترضة بين جملة ( أم لهم سلم ) وجملة ( أم تسألهم أجرا ) ويقدر الاستفهام إنكارا لأن يكون لله البنات .
ودليل الإنكار لنفس الأمر استحالة الولد على الله تعالى ولكن لما كانت عقول أكثر المخاطبين بهذا الرد غير مستعدة لإدراك دليل الاستحالة وكان اعتقادهم البنات لله منكرا تصدي لدليل الإبطال وسلك في إبطاله دليل إقناعي يتفطنون به إلى خطل رأيهم وهو قوله ( ولكم البنون ) .
A E فجملة ( ولكم البنون ) في موضع الحال من ضمير الغائب أي كيف يكون لله البنات في حال أن لكم بنين وهم يعلمون أن صنف الذكور أشرف من صنف الإناث على الجملة كما أشار إليه قوله تعالى ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى ) .
فهذا مبالغة في تشنيع قولهم فليس المراد أنهم لو نسبوا لله البنين لكان قولهم مقبولة لأنهم لم يقولوا ذلك فلا طائل تحت إبطاله .
وتغير أسلوب الغيبة المتبع ابتداء من قوله ( أم يقولون شاعر ) إلى أسلوب الخطاب التفات مكافحة لهم بالرد بجملة الحال