والمعنى : أن الأمر لا هذا ولا ذاك ولكنهم لا يوقنون بالبعث فهم ينكرونه بدون حجة ولا شبهة بل رانت المكابرة على قلوبهم .
( أم عندهم خزائن ربك ) انتقال بالعودة إلى رد جحودهم رسالة محمد A ولذلك غير أسلوب الأخبار فيه إلى مخاطبة النبي A وكان الأصل الذي ركزوا عليه جحودهم توهم أن الله لو أرسل رسولا من البشر لكان الأحق بالرسالة رجلا عظيما من عظماء قومهم كما حكى الله عنهم ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ) وقال تعالى ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) يعنون قرية مكة وقرية الطائف .
والمعنى : إبطال أن يكون لهم تصرف في شؤون الربوبية فيجعلوا الأمر على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبر فيما وكل عليه فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاءون ويمنعون من يشاءون .
والخزائن : جمع خزينة وهي البيت أو الصندوق الذي تخزن فيه الأقوات أو المال وما هو نفيس عند خازنه وتقدم عند قوله تعالى ( قال اجعلني على خزائن الأرض ) . وهي هنا مستعارة لما في علم الله وإرادته من إعطاء الغير للمخلوقات ومنها اصطفاء من هيأه من الناس لتبليغ الرسالة عنه إلى البشر وقد تقدم في سورة الأنعام قوله ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) قال تعالى ( وإذا جاءتك آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته ) . وقال ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ) .
وقد سلك معهم هنا مسلك الإيجاز في الاستدلال بإحالتهم على مجمل أجمله قوله ( أم عندهم خزائن ربك ) لأن المقام مقام غضب عليهم لجرأتهم على الرسول A في نفي الرسالة عنه بوقاحة من قولهم : كاهن ومجنون وشاعر . الخ بخلاف آية الأنعام فإنها ردت عليهم تعريضهم أنفسهم لنوال الرسالة عن الله .
فقوله تعالى هنا ( أم عندهم خزائن ربك ) هو كقوله في سورة ص ( أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ) وقوله في سورة الزخرف ( أهم يقسمون رحمة ربك ) .
وكلمة ( عند ) تستعمل كثيرا في معنى الملك والاختصاص كقوله تعالى ( وعنده مفاتح الغيب ) فالمعنى : أيملكون خزائن ربك أي الخزائن التي يملكها ربك كما اقتضته إضافة ( خزائن ) إلى ( ربك ) على نحو ( أعنده علم الغيب فهو يرى ) . وقد عبر عن هذا باللفظ الحقيقي في قوله تعالى ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذن لأمسكتم خشية الإنفاق ) .
( أم هم المصيطرون [ 37 ] ) إنكار لأن يكون لهم تصرف في عطاء الله تعالى ولو دون تصرف المالك مثل تصرف الوكيل والخازن وهو ما عبر عنه بالمصيطرون .
والمصيطر : يقال بالصاد والسين في أوله : اسم فاعل من صيطر بالصاد والسين إذا حفظ وتسلط وهو فعل مشتق من سيطر إذا قطع ومنه الساطور وهو حديد يقطع به اللحم والعظم . وصيغ منه وزن فعيل للإلحاق بالرباعي كقولهم : بيقر بمعنى هلك أو تحضر وبيطر بمعنى شق وهيمن ولا خامس لها في الأفعال . وإبدال السين صادا لغة فيه مثل الصراط والسراط .
وقرأ الجمهور ( المصيطرون ) بصاد . وقرأه قنبل عن ابن كثير وهشام عن ابن عامر وحفص في روايته بالسين في أوله .
وفي معنى الآية قوله تعالى ( أهم يقسمون رحمة ربك ) وليس في الآية الاستدلال لهذا النفي في قوله ( أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ) لأن وضوحه كنار على علم . وقد تقدم في صدر تفسير هذه السورة حديث جبير بن مطعم لما سمع هذه الآية وكانت سبب إسلامه .
( أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين [ 38 ] ) A E لما نفي أن يكون لهم تصرف قوي أو ضعيف في مواهب الله تعالى على عباده أعقبه بنفي أن يكون لهم اطلاع على ما قدره الله لعباده اطلاعا يخولهم إنكار أن يرسل الله بشرا أو يوحي إليه وذلك لإبطال قولهم ( تقوله ) . ومثل ذلك قولهم ( نتربص به ريب المنون ) المقتضي أنهم واثقون بأنهم يشهدون هلاكه . وحذف مفعول ( يستمعون ) ليعم كلاما من شأنه أن يسمع من الأخبار المغيبة بالمستقبل وغيره الواقع وغيره