ولما كانت مقالتهم هذه طعنا في القرآن وهو المعجزة القائمة على صدق رسالة محمد A وكانت دعواهم أنه تقول على الله من تلقاء نفسه قد تروج على الدهماء تصدى القرآن لبيان إبطالها بأن تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله ( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) أي صادقين في أن محمدا A تقوله من تلقاء نفسه أي فعجزهم عن أن يأتوا بمثله دليل على أنهم كاذبون .
ووجه الملازمة أن محمدا A أحد العرب وهو ينطق بلسانهم . فالمساواة بينه وبينهم في المقدرة على نظم الكلام ثابتة فلو كان القرآن قد قاله محمد A لكان بعض خاصة العرب البلغاء قادرا على تأليف مثله فلما تحداهم الله بأن يأتوا بمثل القرآن وفيهم بلغائهم وشعراؤهم وكلمتهم وكلهم واحد في الكفر كان عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن دالا على عجز البشر عن الإتيان بالقرآن ولذلك قال تعالى في سورة هود ( أم يقولون أفتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا إنما أنزل بعلم الله ) .
كما قال تعالى ( فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) .
والإتيان بالشي : إحضاره من مكان آخر . واختير هذا الفعل دون نحو : فليقولوا مثله ونحوه لقصد الأعذار لهم بأن يقتنع منهم بجلب كلام مثله ولو من أحد غيرهم وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة ( فأتوا بسورة من مثله ) أنه يحتمل معنيين هما : فأتوا بسورة من مثل القرآن أو فأتوا من مثل الرسول A أي من أحد من الناس .
والحديث : الإخبار بالحوادث وأصل الحوادث أنها الواقعات الحديثة ثم توسع فأطلقت على الواقعات ولو كانت قديمة كقولهم : حوادث سنة كذا وتبع ذلك إطلاق الحديث على الخبر مطلقا وتوسع فيه فأطلق على الكلام ولو لم يكن إخبارا ومنه إطلاق الحديث على كلام النبي A .
فيجوز أن يكون الحديث هنا قد أطلق على الكلم مجازا بعلاقة الإطلاق أي فليأتوا بكلام مثله أي في غرض من الأغراض التي تشتمل عليها القرآن لا خصوص الأخبار . ويجوز أن يكون الحديث هنا أطلق على الأخبار أي فليأتوا بأخبار مثل قصص القرآن فيكون استنزالا لهم فإن التكلم بالأخبار أسهل على المتكلم من ابتكار الأغراض التي يتكلم فيها فإنهم كانوا يقولون أن القرآن ( أساطير الأولين ) أي أخبار عن الأمم الماضين فقيل لهم : فليأتوا بأخبار مثل أخباره لأن الإتيان بمثل ما في القرآن من المعارف والشرائع والدلائل لا قبل لعقولهم به وقصاراهم أن يفهموا ذلك إذا سمعوه .
ومعنى المثلية في قوله ( مثله ) المثلية في فصاحته وبلاغته وهي خصوصيات يدركونها إذا سمعوها ولا تحيط قرائحهم بإيداعها في كلامهم . وقد بينا أصول الإعجاز في المقدمة العاشرة من العاشرة من مقدمات هذا التفسير .
ولام الأمر في ( فليأتوا ) مستعملة في أمر التعجيز كقوله حكاية عن قول إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب .
وقوله ( إن كانوا صادقين ) أي في زعمهم أنه تقوله أي فإن لم يأتوا بكلام مثله فهم كاذبون . وهذا إلهاب لعزيمتهم ليأتوا بكلام مثل القرآن ليكون عدم إتيانهم بمثله حجة على كذبهم وقد أشعر نظم الكلام في قوله ( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) الواقع موقعا شبيها بالتذليل والمختوم بكلمة الفاصلة أنه نهاية غرض وأن ما بعده شروع في غرض آخر كما تقدم في نظم قوله ( قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ) .
( أم خلقوا من غير شيء ) A E إضراب انتقالي إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث وقد عملت في أول السورة أن من أغراضها إثبات البعث والجزاء على أن ما جاء بعده من وصف يوم الجزاء وحال أهله قد اقتضته مناسبات نشأت عنها تلك التفاصيل فإذ وفي حق ما اقتضته تلك المنسبات ثني عنان الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وإبطال شبهتهم التي تعللوا بها من نحو قولهم ( أإذا كنا عظام ورفاتنا إنا لمبعوثون خلقا جديدا )