ولما كان قوله ( من المتربصين ) مقدرا معه ( بكم ) لمقابلة قولهم ( نتربص به ريب المنون ) كان في الكلام توجيه بأنه يبقى معهم يتربص هلاكهم حين تبدو بوادره إشارة إلى أن وقعة بدر إذ أصابهم من الحدثان القتل والأسر فتكون الآية مشيرة إلى صريح قوله تعالى في سورة براءة ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ) . وإنما قال هنا ( من المتربصين ) ليشير إلى أن النبي يتربص بهم ريب المنون في جملة المتربصين من المؤمنين وذلك ما في آية سورة براءة على لسان رسوله A والمؤمنين .
وقد صيغ نظم الكلام في هذه الآية على ما يناسب الانتقال من غرض إلى غرض وذلك بما نهي به من شبه التذييل بقوله ( قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ) إذ تمت به المفاصلة .
( أما تأمرهم أحلامهم بهذا ) إضراب انتقال دعا إليه ما في الاستفهام الإنكاري المقدر بعد ( أم ) من معنى التعجب من حالهم كيف يقولون مثل ذلك القول السابق ويستقر ذلك في إدراكهم وهم يدعون أنهم أهل عقول لا تلتبس عليهم أحوال الناس فهم لا يجهلون أن محمدا A ليس بحال الكهان ولا المجانين ولا الشعراء وقد أبى عليهم الوليد بن المغيرة أن يقول مثل ذلك في قصة معروفة .
قال الزمخشري . وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى والمعنى : أم تأمرهم أحلامهم المزعومة بهذا القول .
والإشارة في قوله ( بهذا ) إلى المذكور من القول المعرض به في قوله ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) والمصرح به في قوله ( أم يقولون شاعر نتربص به المنون ) وهذا كما يقول من يلوم عاقلا على فعل فعله ليس من شأنه أن يجهل ما فيه من فساد : أعاقل أنت ؟ أو : هذا لا يفعله عاقل بنفسه ومنه ما حكى الله عن قوم شعيب من قولهم له ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) .
والحلم : العقل قال الراغب : المانع من هيجان الغضب . وفي القاموس هو الأناة . وفي معارج النور : والحلم ملكة غريزية تورث لصاحبها المعاملة بلطف ولين لمن أساء أو أزعج اعتدال الطبيعة .
ومعنى إنكار أن تأمرهم أحلامهم بهذا أن الأحلام الراجحة لا تأمر بمثله وفيه تعريض بأنهم أضاعوا أحلامهم حين قالوا ذلك لأن الأحلام لا تأمر بمثله فهم كمن لا أحلام لهم وهذا تأويل ما روي أن الكافر لا عقل له . قالوا وإنما للكافر الذهن والذهن يقبل العلم جملة والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي .
والأمر في ( تأمرهم ) مستعار للباعث أي تبعثهم أحلامهم على هذا القول .
( أم هم قوم طاغون [ 32 ] ) إضراب انتقالي أيضا متصل بالذي قبله انتقل به إلى استفهام عن اتصافهم بالطغيان . والاستفهام المقدر مستعمل : إما في التشكيك باعثا على التأمل في حالهم فيؤمن بأنهم طاغون وإما مستعمل في التقرير لكل سامع إذ يجدهم طاغين .
وإقحام كلمة ( قوم ) يمهد لكون الطغيان من مقومات حقيقة القومية فيهم كما قدمناه في قوله تعالى ( لآيات لقوم يعقلون ) في سورة البقرة أي تأصل فيهم الطغيان وخالط نفوسهم فدفعهم إلى أمثال تلك الأقوال .
( أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون [ 33 ] فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين [ 34 ] ) انتقال متصل بقوله ( أم يقولون شاعر ) الخ . وهذا حكاية لإنكارهم أن يكون القرآن وحيا من الله فزعموا أنه تقوله النبي A على الله فالاستفهام إنكار لقولهم وهم قد أكثروا من الطعن وتمالؤوا عليه ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة ( يقولون ) المفيدة للتجدد .
A E والتقول : نسبة كلام إلى أحد لم يقله ويتعدى إلى الكلام بنفسه ويتعدى إلى من ينسب إليه بحرف ( على ) قال تعالى ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ) الآية . وضمير النصب في ( تقوله ) عائد إلى القرآن المفهوم من المقام .
وابتدىء الرد عليهم بقوله ( بل لا يؤمنون ) لتعجيل تكذيبهم قبل الإدلاء بالحجة عليهم وليكون ورود الاستدلال مفرعا على قوله ( لا يؤمنون ) بمنزلة دليل ثان . ومعنى ( لا يؤمنون ) : أن دلائل تنزيه النبي A عن تقول القرآن بينة لديهم ولكن الزاعمين ذلك يأبون الإيمان فهم يبادرون إلى الطعن دون نظر ويلقون المعاذير سترا لمكابرتهم