ومناسبة هذا الانتقال عن أمر النبي A بالدوام على التذكير يشير إلى مقالاتهم التي يردون بها دعوته فلما أشير إلى بعضها بقوله تعالى ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) انتقل إلى إبطال صفة أخرى يثلثون بها الصفتين المذكورتين قبلها وهي صفة شاعر .
روى الطبري عن قتادة قال قائلون من الناس : تربصوا بمحمد A الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان ولم يعينوا اسم الشاعر ولا أنه كان يهجو كفار قريش .
وعن الضحاك ومجاهد : أن قريشا اجتمعوا في دار الندوة فكثرت آرائهم في محمد A فقالوا بنو عبد الدار : هو شاعر تربصوا به ريب المنون فسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت هذه الآية فحكت مقالتهم كما قالوها أي فليس في الكلام خصوص ارتباط بين دعوى أنه شاعر وبين تربص الموت به لأن ريب المنون يصيب الشاعر والكاهن والمجنون وجاء ( يقولون ) مضارعا للدلالة على تجدد ذلك القول منهم . والتربص مبالغة في : الربص وهو الانتظار .
والريب هنا : الحدثان وفسر بصرف الدهر وعن ابن عباس : ريب في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور ( ريب المنون ) .
والباء في ( به ) يجوز أن تكون للسبب أي بسببه أي نتربص لأجله فتكون الباء متعلقة ب ( نتربص ) ويجوز أن تكون للملابسة وتتعلق ب ( ريب المنون ) حالا منه مقدما على صاحبها أي حلول ريب المنون به .
والمنون : من أسماء الموت ومن أسماء الدهر ويذكر . وقد فسر بكل المعنيين فإذا فسر بالموت فإضافة ( ريب ) إليه بيانية ؛ أي الحدثان الذي هو الموت وإذ فسر النون بالدهر فالإضافة على أصلها أي أحداث الدهر مثل موت أو خروج من البلد أو الرجوع إلى دعوته فريب المنون جنس وقد ذكروا في مقالتهم قولهم : فسيهلك فاحتملت أن يكونوا أرادوه بيان ريب الموت أو إن أرادوه مثالا لريب الدهر وكلا الاحتمالين جار في الآية لأنها حكت مقالتهم .
وقد ورد ( ريب المنون ) في كلام العرب بالمعنيين ؛ فمن وروده في معنى الموت قول أبي ذؤيب : .
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمتعب من يجزع ومن وروده بمعنى حدثان الدهر قول الأشعى : .
أإن رأت رجلا أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر متبل خبل أراد أضر بذاته حدثان الدهر ولم يرد إصابة الموت كما أراد أبو ذؤيب .
ولما كان انتفاء كونه شاعرا أمرا واضحا يكفي فيه مجرد التأمل لم يتصد القرآن للاستدلال على إبطاله وإنما اشتملت مقالتهم على أنهم يتربصون أن يحل به ما حل بالشعراء الذين هم من جملة الناس .
فأمر الله تعالى نبيه A أن يجيبهم عن مقالتهم هذه بأن يقول : ( تربصوا فإني معكم من المتربصين ) وهو جواب منتصف لأن تربص حلول حوادث الدهر بأحد الجانبين أو حلول المنية مشترك الإلزام لا يدري أحدنا ماذا يحل بالآخرة .
( قل تربصوا فإني معكم من المتربصين [ 31 ] ) وردت جملة ( قل تربصوا ) مفصولة بدون عطف لأنها وقعت في مقام المحاورة لسبقها بجملة ( يقولون شاعر ) الخ فإن أمر أحد بأن يقول بمنزلة قوله فأمر بقوله ومثله قوله تعالى ( فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ) .
A E والأمر في ( تربصوا ) مستعمل في التسوية أي سواء عندي تربصهم بي وعدمه . وفرع عليه ( فإني معكم من المتربصين ) أي فإني متربص بكم مثل ما تتربصون بي إذا لا ندري أينا يصيبه ريب المنون قبل .
وتأكيد الخبر ب ( أن ) في قوله ( فإني معكم من المتربصين ) لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر أنه يتربص بهم كما يتربصون به لأنهم لغرورهم اقتصروا على أنهم يتربصون به ليروا هلاكه فهذا من تنزيل غير المنكر منزلة المنكر .
والمعية في قوله ( معكم ) ظاهرها أنها للمشاركة في وصف التربص