فالأمر مستعمل في طلب الدوام مثل ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) . ولما كان أثر التذكير أهم بالنسبة إلى فريق المكذبين ليهتدي من شرح قلبه للإيمان روعي ما يزيد النبي A ثباتا على التذكير من تبرئته مما يواجهونه من قولهم لهو : هو كاهن أو هو مجنون فربط الله جأش رسوله A وأعلمه بأن براءته من ذلك نعمة أنعم بها عليه ربه تعالى ففرع هذا الخبر على الأمر بالتذكير بقوله ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) والباء في ( بنعمة ربك ) للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير ( أنت ) .
ونفي هذين الوصفين عنه في خطاب أمثاله ممن يستحق الوصف بصفات الكمال يدل على أن المراد من النفي غرض آخر وهو هنا إبطال نسبة من نسبه إلى ذلك كما في قوله تعالى ( وما صاحبكم بمجنون ) ولذلك حسن تعقيبه بقوله ( أم يقولون شاعر ) مصرحا فيه ببعض أقوالهم فعلم أن المنفي عنه فيما قبله مقالة من مقالهم .
وقد اشتملت هاته الكلمة الطيبة على خصائص تناسب تعظيم من وجهت إليه وهي أنها صيغت في نظم الجملة الاسمية فقيل فيها ( ما أنت بكاهن ) دون : فلست بكاهن لتدل على ثبات مضمون هذا الخبر .
وقدم فيها المسند إليه مع أن مقتضى الظاهر أن يقدم المسند وهو ( كاهن ) أو ( مجنون ) لأن المقام يقتضي الاهتمام بالمسند ولكن الاهتمام بالضمير المسند إليه كان أرجح هنا لما فيه من استحضار معاده المشعر بأنه شيء عظيم وأفاد مع ذلك أن المقصود أنه متصف بالخبر لا نفس الإخبار عنه بالخبر كقولنا : الرسول يأكل الطعام ويتزوج النساء . وأفاد أيضا قصرا إضافيا بقرينه المقام لقلب ما يقولونه أو يعتقدونه من قولهم : هو كاهن أو مجنون على طريقة قوله تعالى ( وما أنت علينا بعزيز ) .
وقرن الخبر المنفي بالباء الزائدة لتحقيق النفي فحصل في الكلام تقويتان وجيء بالحال قبل الخبر أو بالجملة المعترضة بين المبتدأ والخبر لتعجيل المسرة وإظهار أن الله أنعم عليه بالبراءة من هذين الوصفين .
وعدل عن استحضار الجلالة بالاسم العلم إلى تعريفة بالإضافة وبوصفه الرب لإفادة لطفه تعالى برسوله A لأنه ربه فهو يربه ويدبر نفعه ولتفيد الإضافة تشريف المضاف إليه .
وقوله تعالى ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) رد على مقالة شيبة بن ربيعة قال في رسول الله A هو كاهن وعلى عقبة بن أبي معيط إذ قال : هو مجنون ويدل لكونه ردا على مقالة سبقت أنه أتبعه بقوله ( أم يقولون شاعر ) ما سيكون وما خفي مما هو كائن .
والكاهن : الذي ينتحل معرفة ما سيحدث من الأمور وما خفي مما هو كائن ويخبر به بكلام ذي أسجاع قصيرة . وكان أصل الكلمة موضوعة لهذا المعنى غير مشتقة ونظيرها في العبرية " الكوهين " وهو حافظ الشريعة والمفتي بها وهو من بني " لاوي " وتقدم ذكر الكهانة عند قوله تعالى ( وما تنزلت به الشياطين ) في سورة الشعراء .
A E وقد اكتفي في إبطال كونه كاهنا أو مجنونا بمجرد النفي دون استدلال عليه لأن مجرد التأمل في حال النبي A كاف في تحقق انتفاء ذينك الوصفين عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه بهما إلى أكثر من الإخبار بنفيهما لأن دليله المشاهدة .
( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون [ 30 ] ) إن كانت ( أم ) مجردة عن عمل العطف فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وإلا فهي عطف على جملة ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) .
وعن الخليل كل ما في سورة الطور من ( أم ) فاستفهام وليس بعطف يعني أن المعنى على الاستفهام لا على عطف المفردات . وهذا ضابط ظاهر . ومراده : أن الاستفهام مقدر بعد ( أم ) وهي منقطعة وهي للإضراب عن مقالتهم المردودة بقوله ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) للانتقال إلى مقالة أخرى وهي قولهم ( هو شاعر نتربص به ريب المنون ) . وعدل عن الإتيان بحرف ( بل ) مع أنه أشهر في الإضراب الانتقالي لقصد تضمن ( أم ) للاستفهام . والمعنى : بل أيقولون شاعر الخ . والاستفهام المقرر إنكاري