وإشفاق : توقع المكروه وهو ضد الرجاء وهذا التوقع متفاوت عند المتسائلين بحسب تفاوت ما يوجبه من التقصير في أداء حق التكليف أو من العصيان . ولذلك فهو أقوى في جانب ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بأصولهم بدون استحقاق .
ولعله في جانب الذريات أظهر في معنى الشكر وأن أصولهم من أهلهم فهم يعلمون أن ذرياتهم كانوا مشفقين من عقاب الله تعالى أو بمنزلة من يعلم ذلك من مشاهدة سيرهم في الفاء بحقوق التكليف وكذلك أصولهم بالنسبة إلى من يعلم حالهم من أصحابهم أو يسمع منهم إشفاقهم واستغفارهم . وحذف متعلق ( مشفقين ) لأنه دل عليه ( ووقانا عذاب السموم ) .
وعلى هذا الوجه يكون معنى ( في ) الظرفية .
ويتعلق ( في أهلينا ) ب ( كنا ) أي حين كنا في ناسنا في الدنيا . ف ( أهلنا ) هنا في معنى آلنا .
ويجوز أن تكون المقالة صادرة من الذين آمنوا يخاطبون ذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم يكونوا يحسبون أنهم سيلحقون بهم : فالمعنى : إنا كنا قبل مشفقين عليكم فتكون ( في ) للظرفية المجازية المفيدة للتعليل أي مشفقين لأجلكم ومعنى ( فمن الله علينا ) من علينا بالعفوا عنكم فأذهب عنا الحزن ووقانا أن يعذبكم بالنار . فلما كان عذاب الذريات يحزن آباءهم جعلت وقاية الذريات منه بمنزلة وقاية آبائهم فقالوا : ( ووقانا عذاب السموم ) إغراقا في الشكر عنهم وعن ذرياتهم أي فمن علينا جميعا ووقانا جميعا عذاب السموم .
والسموم بفتح السين أصله اسم الريح التي تهب من جهة حارة جدا فتكون جافة شديدة الحرارة وهي معروفة في بلاد العرب تهلك من يتنشقها . وأطلق هنا على ريح جهنم على سبيل التقريب بالأمر المعروف كما أطلقت على العنصر الناري في قوله تعالى ( والجان خلقناه من قبل من نار السموم ) في سورة الحجر وكل ذلك تقريب بالمألوف .
وجملة ( إنا كنا من قبل ندعوه ) تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم أي كنا من قبل اليوم ندعوه أي في الدنيا .
وحذف متعلق ( ندعوه ) للتعميم أي كنا نبتهل إليه في أمورنا وسبب العموم داخل ابتداء وهو الدعاء لأنفسهم ولذرياتهم بالنجاة من النار وبنوال نعيم الجنة .
ولما كان هذا الكلام في دار الحقيقة لا يصدر إلا عن إلهام ومعرفة كان دليلا على أن دعاء الصالحين لأبنائهم وذرياتهم مرجو الإجابة كما دل على إجابة دعاء الصالحين من الأبناء لآبائهم على ذلك قال النبي A " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " فذكر " وولد صالح يدعوا له بخير " .
A E وقوله ( أنه هو البر الرحيم ) قرأه نافع والكسائي وأبو جعفر بفتح همزة ( أنه ) على تقدير حرف الجر محذوفا حذفا مطردا مع ( أن ) وهو هنا اللام تعليلا ل ( ندعوه ) وقرأه الجمهور بكسر همزة ( إن ) وموقع جملتها التعليل .
والبر : المحسن في رفق .
والرحيم : الشديد الرحمة وتقدم في تفسير سورة الفاتحة .
وضمير الفصل لإفادة الحصر وهو لقصر صفتي ( البر ) و ( الرحيم ) على الله تعالى وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد ببرور غيره ورحمة غيره بالنسبة إلى برور الله ورحمته باعتبار القوة فإن غير الله لا يبلغ بالمبرة والرحمة مبلغ ما لله وباعتبار عموم المتعلق وباعتبار الدوام لأن الله بر في الدنيا والآخرة وغير الله بر في بعض أوقات الدنيا ولا يملك في الآخرة شيئا .
( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن و لا مجنون [ 29 ] ) تفريع على ما تقدم كله من قوله ( إن عذاب ربك لواقع ) لأنه تضمن تسلية الرسول A على تكذيب المكذبين والافتراء عليه وعقب بهذا لأن من الناس مؤمنين به متيقنين أن الله أرسله مع ما أعد لكلا الفريقين فكان ما تضمنه ذلك يقتضي أن في استمرار التذكير حكمة أرادها الله وهي ارعواء بعض المكذبين عن تكذيبهم وازدياد المصدقين توغلا في إيمانهم ففرع على ذلك أن أمر الله رسوله A بالدوام على التذكير