وجملة ( اصلوها ) مستأنفة هي بمنزلة النتيجة المترقبة من التوبيخ والتغليظ السابقين أي ادخلوها فاصطلوا بنارها يقال : صلي النار يصلاها إذ قاس حرها .
والأمر في ( اصلوها ) إما مكني به عن الدخول لأن الدخول لها يستلزم الاحتراق بنارها وإما مستعمل مجازا في التنكيل . وفرع على ( اصلوها ) أمر للتسوية بين صبرهم على حرها وبين عدم الصبر وهو الجزع لأن كليهما لا يخففان عنهم شيئا من العذاب ألا ترى أنهم يقولون : ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) لأن جرمهم عظيم لا مطمع في تخفيف جزائه .
و ( سواء عليكم ) مؤكدة لجملة ( فاصبروا أو لا تصبروا ) فلذلك فصلت عنها ولم تعطف .
وجملة ( إنما تجزون ما كنتم تعملون ) تعليل لجملة ( اصلوها ) إذ كلمة ( إنما ) مركبة من ( إن ) و ( ما ) الكافة فكما يصح التعليل ب ( أن ) وحدها كذلك يصح التعليل بها مع ( ما ) الكافة وعليه فجملتا ( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ) معترضتان بين جملة ( اصلوها ) والجملة الواقعة تعليلا لها .
والحصر المستفاد من كلمة ( إنما ) قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن ما لقوه من العذاب ظلم لم يستوجبوا مثل ذلك من شدة ما ظهر عليهم من الفزع .
وعدي ( تجزون ) إلى ( ما كنتم تعملون ) بدون الباء خلافا لقوله بعده ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ) ليشمل القصر مفعول الفعل المقصور أي تجزون مثل عملكم لا أكثر منه فينتفي الظلم عن مقدار الجزاء كما انتفى الظلم عن أصله ولهذه الخصوصية لم يعلق معمول الفعل بالباء إذ جعل الجزاء بمنزلة نفس الفعل .
( إن المتقين في جنات ونعيم [ 17 ] فاكهين بما أتيهم ربهم ووقيهم ربهم عذاب الجحيم [ 18 ] كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون [ 19 ] ) استئناف بياني بعد أن ذكر حال المكذبين وما يقال لهم فمن شأن السامع أن يتساءل عن حال أضدادهم وهم الفريق الذين صدقوا الرسول A فما جاء به القرآن وخاصة إذ كانوا السامعون المؤمنين وعادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير وعكسه والجملة معترضة بين ما قبلها وجملة ( أم يقولون شاعر ) .
A E وتأكيد الخبر ب ( إن ) للاهتمام به . وتنكير ( جنات ونعيم ) لتعظيم أي في أية جنات وأي نعيم .
وجمع ( جنات ) تقدم في سورة الذاريات .
والفاكه : وصف من فكه كفرح إذا طابت نفسه وسر .
وقرأ الجمهور ( فاكهين ) على صيغة اسم الفاعل وقرأه أبو جعفر ( فكهين ) بدون ألف .
والباء في ( بما آتاهم ربهم ) للسببية والمعنى : أن ربهم أرضاهم بما يحبون .
واستحضار الجلالة بوصف ( ربهم ) للإشارة إلى عظيم ما آتاهم إذ العطاء يناسب حال المعطي وفي إضافة ( رب ) إلى ضميرهم تقريب لهم وتعظيم وجملة ( ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ) ي موضع الحال والواو حالية أو عاطفة على ( متكئين ) الذي هو حال والتقدير : وقد وقاهم ربهم عذاب الجحيم وهو حال من المتقين . والمقصود من ذكر هذه الحالة : إ ظهار التباين بين حال المتقين وحال المكذبين زيادة في الامتنان فإن النعمة تزداد حسن وقع في النفس عند ملاحظة ضدها .
وفيه أيضا أن وقايتهم عذاب الجحيم عدل لأنهم لم يقترفوا ما يوجب العقاب . وأما ما أعطوه من النعيم فذلك فضل من الله وإكرام منه لهم .
وفي قوله ( ربهم ) ما تقدم قبيله .
وجملة ( كلوا واشربوا ) إلى آخرها مقول قول محذوف في موضع الحال أيضا تقديره : يقال : لهم أو مقولا لهم . وهذا القول مقابل ما يقال للمكذبين ( اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون ) .
وحذف مفعول ( كلوا واشربوا ) لإفادة النعيم أي كلوا ما يؤكل واشربوا كل ما يشرب وهو عموم عرفي أي مما تشتهون .
و ( هنيئا ) اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول وقع وصفا لمصدرين لفعلي ( كلوا واشربوا ) أكلا وشربا فلذلك لم يؤنث الوصف لأن فعيلا إذا كان بمعنى مفعول يلزم الإفراد والتذكير . وتقدم في سورة النساء لأنه سالم مما يكدر الطعام والشراب .
و ( ما ) موصولة والباء سببية أي بسبب العمل الصالح الذي يومي إليه قوله ( المتقين ) وفي هذا القول زيادة كرامة لهم بإظهار أن ما أتوه من الكرامة عوض عن أعمالهم كما آذنت به باء السببية وهو نحو قول من يسدي نعمة إلى المنعم عليه : لا فضل لي عليك وإنما هو مالك أو نحو ذلك