وإيثار اسمه ( الرحمان ) في قوله ( من خشي الرحمان ) دون اسم الجلالة للإشارة إلى أن هذا المتقي يخشى الله وهو يعلم أنه رحمان ولقصد التعريض بالمشركين الذين أنكروا اسمه الرحمان ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمان ) .
A E والمعنى على الذين خشوا : خشي صاحب هذا الاسم فأنتم لا حظ لكم في الجنة لأنكم تنكرون أن الله رحمان بلة أن تخشوه .
ووصف قلب ب ( منيب ) على طريقة المجاز العقلي لأن القلب سبب الإنابة لأنه الباعث عليها .
وجملة ( ادخلوها بسلام ) من تمام مقول القول المحذوف . وهذا الإذن من كمال إكرام الضيف أنه إن دعي إلى الوليمة أو جيء به فإنه إذا بلغ المنزل قيل له : ادخل بسلام .
والباء في ( بسلام ) للملابسة . والسلام : السلامة من كل أذى من تعب أو نصب وهو دعاء .
ويجوز أن يراد به أيضا تسليم الملائكة عليهم حين دخولهم الجنة مثل قوله ( سلام قولا من رب رحيم ) .
ومحل هذه الجملة من التي قبلها الاستئناف البياني لأن ما قبلها يثير ترقب المخاطبين للإذن بإنجاز ما وعدوا به .
وجملة ( ذلك يوم الخلود ) يجوز أن تكون مما يقال للمتقين على حد قوله ( فادخلوها خالدين ) والإشارة إلى اليوم الذي هم فيه . وكان اسم الإشارة للبعيد للتعظيم .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى اليوم المذكور في قوله ( يوم يقول لجهنم هل امتلأت ) فإنه بعد أن ذكر ما يلاقيه أهل جهنم وأهل الجنة أعقبه بقوله ( ذلك يوم الخلود ) ترهيبا وترغيبا وعلى هذا الوجه الثاني تكون هذه الجملة معترضة اعتراضا كوجها إلى المتقين يوم القيامة أو إلى السامعين في الدنيا .
وعلى كلا الوجهين فإضافة ( يوم ) إلى ( الخلود ) باعتبار أن أول أيام الخلود هي أيام ذات مقادير غير معتادة أو باعتبار استعمال ( يوم ) بمعنى مطلق الزمان .
وبين كلمة ( ادخلوها ) وكلمة ( الخلود ) الجناس المقلوب الناقص ثم إن جملة ( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) يجوز أن تكون من بقية ما يقال للمتقين ابتداء من قوله ( هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ) فيكون ضمير الغيبة التفاتا وأصله : لكم ما تشاؤون . ويجوز أن تكون مما خوطب به الفريقان في الدنيا وعلى الاحتمالين فهي مستأنفة استنئنافا بيانيا .
و ( ولدينا مزيد ) أي زيادة على ما يشاؤون مما لم يخطر ببالهم وذلك زيادة في كرامتهم عند الله ووردت آثار متفاوتة القوة أن من المزيد مفاجأتهم بخيرات وفيها دلالة على أن المفاجأة بالإنعام ضرب من التلطف والإكرام وأيضا فإن الأنعام يجيئهم في صور معجبة . والقول في ( مزيد ) هنا كالقول في نظيره السابق آنفا .
وجاء ترتيب الآيات في منتهى الدقة فبدأت بذكر إكرامهم بقوله ( وأزلفت الجنة للمتقين ) ثم بذكر أن الجنة جزاؤهم الذي وعدوا به فهي حق لهم ثم أومأت إلى أن ذلك لأجل أعمالهم بقوله ( لكل أواب حفيظ من خشي الرحمان ) الخ ثم ذكرت المبالغة في إكرامهم بعد ذلك كله بقوله ( ادخلوها بسلام ) ثم طمأنهم بإن ذلك نعيم خالد وزيد في إكرامهم بأن لهم ما يشاؤون ما لم يروه حين الدخول وبأن الله وعدهم بالمزيد من لدنه .
( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص [ 36 ] إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [ 37 ] ) انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) وما فرع عليه من قوله ( أفعيينا بالخلق الأول ) . وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس ) إلى قوله ( فحق وعيد ) . فالوعيد الذي حق عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ) .
والخبر الذي أفاده قوله ( وكم أهلكنا قبلهم ) تعريض بالتهديد وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم .
وضميرا ( قبلهم ) و ( منهم ) عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله ( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ) . ويفسره قوله بعده ( فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) . وجرى على ذلك السنن قوله ( كذبت قبلهم قوم نوح ) وقوله ( بل هم في لبس من خلق جديد ) ونظائره في القرآن كثيرة