علم أن قوله ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) لا ينافي ان تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل وفي العائلات وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثارا لأفرادها وخلالا في سلائلها قال النبي صلى الله عليه وسلم " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " .
فإن في خلق الأنباء آثارا من طباع الآباء الأدنين أو الأعلين تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثارا جمة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى .
وجملة ( إن الله عليم خبير ) تذييل وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه .
( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم [ 14 ] ) A E كان من بين الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع المسماة سنة الوفود وفد بني أسد بن خزيمة وكانوا ينزلون بقرب المدينة وكان قدومهم المدينة عقب قدوم وفد بني تميم الذي ذكر في أول السورة ووفد بنو أسد في عدد كثير وفيه ضرار بن الأزور وطليحة بن عبد الله " الذي ادعى النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أيام الردة " وكانت هذه السنة سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك محارب خصفة وهوازن وغطفان . يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروحون بهذه المقالة ويمنون عليه ويريدون أن يصرف إليهم الصدقات فأنزل الله فيهم هذه الآيات الى آخر السورة لوقوع القصتين قصة وفد بني تميم وقصة وفد بني أسد في أيام متقاربة والأغراض المسكوة بالجفاء متناسبة . وقال السدي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح في قوله تعالى ( سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا ) الآية .
قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت هذه الآية .
والأعراب : سكان البادية من العرب . وأحسب أنه لا يطلق على أهل البادية من غير العرب وهو اسم جمع لا مفرد له فيكون الواحد منه بياء النسبة أعرابي .
وتعريف ( الأعراب ) تعريف العهد لأعراب معينين وهم بنو أسد فليس هذا الحكم الذي في الآية حاقا على جميع سكان البوادي ولا قال هذا القول غير بني أسد .
وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ) الآية .
والاستدراك بحرف ( لكن ) لرفع ما يتوهم من قوله ( لم تؤمنوا ) أنهم جاؤوا مضمرين الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم . وإنما قال ( ولكن قولوا أسلمنا ) تعليما لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مقره اللسان والأعمال البدنية وهي قواعد الإسلام الأربعة : الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثوا عهد به كذبهم الله في قولهم ( آمنا ) ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله وأنه لا يتعد بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان فلا يغني أحدهما بدون الآخر فالإيمان بدون إسلام عناد والإسلام بدون إيمان نفاق ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم