ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يغين على نورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتجسس والغيبة ذكرهم بأصل الأخوة في الانسياب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عونا على تبصرهم في حالهم ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعته الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله ( لتعارفوا ) ثم وأتبعه بقوله ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) .
والخبر في قوله ( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين . والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فتلك الجملة تتنزل من جملة ( إنا خلقانكم من ذكر وأنثى ) منزلة المقصد من المقدمة والنتيجة من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان .
وأما جملة ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) فهي معترضة بين الجملتين الأخريين .
والمقصود من اعتراضها : إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم .
ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال " يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى " .
A E ومن نمط نظم الآية وتبيينها ما رواه الترمذي في تفسير هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها لا لآباء الناس مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب " . وفي رواية أن ذلك مما خطب به يوم فتح مكة " عبية بضم العين المهملة وبكسرها وبتشديد الموحدة المكسورة ثم تشديد المثناة التحتية : الكبر والفخر . ووزنهما على لغة ضم الفاء فعولة وعلى لغة كسر الفاء فعلية وهي إما مشتقة من التعبية فتضعيف الباء لمجرد الإلحاق مثل نض الثوب بمعنى نضى أو مشتقة من عباب الماء فالتضعيف في الباء أصلي " .
وفي رواية ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر " طاف رسول الله يوم فتح مكة ثم خطبهم في بطن المسيل فذكر الحديث وزاد فيه أن الله يقول ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) إلى ( إن الله عليم خبير ) " .
وجملة ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا وإنما أخرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساووا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضل بعضهم بعضا إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم ب ( عند الله ) إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به .
والمراد بالأكرم : الأنفس والأشرف كما تقدم بيانه في قوله ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) في سورة النمل .
والأتقى : الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتقى على غير قياس .
وجملة ( إن الله عليم خبير ) تعليل لمضمون ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى وهذا كقوله ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى أي التي هي التزكية الحق . ومن هذا الباب قوله ( الله أعمل حيث يجعل رسالاته )