ونودوا بعنوان ( الناس ) دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صدر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل والى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) .
فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغتر بأن غالب الخطاب ب ( يا أيها الناس ) إنما كان في المكي .
والمراد بالذكر والأنثى : آدم وحواء أبوا البشر بقرينة قوله ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) .
ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنتم بنو آدم وآدم من تراب " كما سيأتي قريبا . فيكون تنوين ( ذكر وأنثى ) لأنهما وصفان لموصوف فقرر أي من أب ذكر ومن أم أنثى .
ويجوز أن يراد ب ( ذكر وأنثى ) صنف الذكر والأنثى أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى .
وحرف ( من ) على كلا الاحتمالين للابتداء .
والشعوب : جمع شعب بفتح الشين وهو مجمع القبائل التي ترجع إلى جد واحد من أمة مخصوصة وقد يسمى جذما فالأمة العربية تنقسم إلى شعوب كثيرة فمضر شعب وربيعة شعب وأنمار شعب وإياد شعب وتجمعها الأمة العربية المستعربة وهي عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام وحمير وسبأ والأزد شعوب من أمة قحطان . وكنانة وقيس وتميم قبائل من شعب مضر . ومذحج وكندة قبيلتان من شعب سبأ . والأوس والخزرج قبيلتان من شعب الأزد .
وتحت القبيلة العمارة مثل قريش من كنانة وتحت العمارة البطن مثل قصي من قريش وتحت البطن الفخذ مثل هاشم وأمية من قصي وتحت الفخذ الفصيلة مثل أبي طالب والعباس وأبي سفيان .
واقتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب .
A E وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جريا على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم .
وجعلت علة جعل الله إياه شعوبا وقبائل . وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس أي يعرف بعضهم بعضا .
والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى فالعائلة الواحدة متعارفون والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائر والعمائر مع القبائل والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها .
فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاما محكما لربط أو اصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر . وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم .
والمقصود : أنكم حرفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بسبب تناكر وتطاحن وعدوان .
ألا ترى إلى قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب : .
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا .
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا وقول العقيلي وحاربه بنو عمه فقتل منهم : .
ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي وقول الشميذر الحارثي : .
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا ... بني عمنا لو كان أمرا مدانيا وأقوالهم في هذا لا تحصر عدا ما دون ذلك من التفاخر والتطاول والسخرية واللمز والنبز وسوء الظن والغيبة مما سبق ذكره .
وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة