ومنها أنه لم يقتصر على كون المأكول لحم الأخ حتى جعل الأخ ميتا .
وفيه من المحسنات الطباق بين ( أيحب ) وبين ( فكرهتموه ) .
والغيبة حرام بدلالة هذه الآية وآثار من السنة بعضها صحيح وبعضها دونه .
وذلك أنها تشتمل على مفسدة ضعف في أخوة الإسلام . وقد تبلغ الذي اغتيب فتقدح في نفسه عداوة لمن اغتابه فينثلم بناء الأخوة ولأن فيها الاشتغال بأحوال الناس وذلك يلهي الإنسان عن الاشتغال بالمهم النافع له وترك ما لا يعنيه .
وهي عند المالكية من الكبائر وقل من صرح بذلك لكن الشيخ عليا الصعيدي في حاشية الكفاية صرح بأنها عندنا من الكبائر مطلقا . ووجهه أن الله نهى عنها وشنعها . ومقتضى كلام السجلماسي في كتاب العمل الفاسي أنها كبيرة .
وجعلها الشافعية من الصغائر لأن الكبيرة في اصطلاحهم فعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة كذا حدها إمام الحرمين .
فإذا كان ذلك لوجه مصلحة مثل تجريح الشهود ورواة الحديث وما يقال للمستشير في مخالطة أو مصاهرة فإن ذلك ليس بغيبة بشرط أن لا يتجاوز الحد الذي يحصل به وصف الحالة المسؤول عنها .
وكذلك لا غيبة في فاسق بذكر فسقه دون مجاهرة له به . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما استؤذن عنده لعيينة بن حصن " بئس أخو العشيرة " ليحذره من سمعه إذ كان عيينة يومئذ منحرفا عن الإسلام .
وعن الطبري صاحب " العدة " في فروع الشافعية أنها صغيرة قال المحلي وأقره الرافعي ومن تبعه . قلت : وذكر السجلماسي في نظمه في المسائل التي جرى بها عمل القضاة في فاس فقال : A E .
ولا تجرح شاهدا بالغيبه ... لأنها عمت بها المصيبه وذكر في شرحه : أن القضاة عملوا بكلام الغزالي .
وأما عموم البلوى فلا يوجب اغتفار ما عمت به إلا عند الضرورة والتعذر كما ذكر ذلك عن أبي محمد بن أبي زيد .
وعندي : أن ضابط ذلك أن يكثر في الناس كثرة بحيث يصير غير دال على استخفاف بالوازع الديني فحينئذ يفارقها معنى ضعف الديانة الذي جعله الشافعية جزءا من ماهية الغيبة .
( واتقوا الله إن الله تواب رحيم [ 12 ] ) عطف على جمل الطلب السابقة ابتداء من قوله ( اجتنبوا كثيرا من الظن ) وهذا كالتذييل لها إذ أمر بالتقوى وهي جماع الاجتناب والامتثال فمن كان سالما من التلبس بتلك المنهيات فالأمر بالتقوى يجنبه التلبس بشيء منها في المستقبل ومن كان متلبسا بها أو ببعضها فالأمر بالتقوى يجمع الأمر بالكف عما هو متلبس به منها .
وجملة ( إن الله تواب رحيم ) تذييل للتذييل لأن التقوى تكون بالتوبة بعد التلبس بالإثم فقيل ( إن الله تواب ) وتكون التقوى ابتداء فيرحم الله المتقي فالرحيم شامل للجميع .
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقيكم إن الله عليم خبير [ 13 ] ) انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض إذ كان إعجاب كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشيا في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل باهلة وضبيعة وبني عكل .
سئل أعرابي : أتحب تدخل الجنة وأنت باهلي فأطرق حينا ثم قال : على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي . فكان ذلك يجر إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام .
فعن أبي داود أنه روى في كتابه المراسيل عن الزهري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة " من الأنصار " أن يزوجوا أبا هند " مولى بني بياضة قيل اسمه يسار " امرأة منهم فقالوا : تزوج بناتنا موالينا فأنزل الله تعالى ( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا ) الآية . وروي غير ذلك في سبب نزولها