التجسس من آثار الظن لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظان نفسه إلى تحقيق ما ظنه سرا فيسلك طريق التجنيس فحذرهم الله من سلوك هذا الطريق للتحقق ليسلكوا غيره إن كان في تحقيق ما ظن فائدة .
والتجسس : البحث بوسيلة خفية وهو مشتق من الجس ومنه سمي الجاسوس .
والتجسس من المعاملة الخفية عن المتجسس عليه . ووجه النهي عنه أنه ضرب من الكيد والتطلع على العورات . وقد يرى المتجسس من المتجسس عليه ما يسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد . ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة وذلك من نكد العيش .
وذلك ثلم للأخوة الإسلامية لأنه يبعث على إظهار التنكر ثم إن اطلع المتجسس عليه على تجسس الآخر ساءه فنشأ في نفسه كره له وانثلمت الأخوة ثلمة أخرى كما وصفنا في حال المتجسس ثم يبعث ذلك على انتقام كليهما من أخيه .
وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم وإذا علم أنه يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة . ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضر بهم .
فالمنهي عنه هو التجسس الذي لا ينجر منه نفع للمسلمين أو دفع ضر عنهم فلا يشمل التجسس على الأعداء ولا تجسس الشرط على الجناة واللصوص .
( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) الاغتياب : افتعال من غابه المتعدي إذا ذكره في غيبه بما يسوءه .
A E فالاغتياب ذكر أحد غائب بما لا يحب أن يذكر به والاسم منه الغيبة بكسر الغين مثل الغيلة . وإنما يكون ذكره بما يكره غيبه إذا لم يكن ما ذكره به مما يثلم العرض وإلا صار قذعا .
وإنما قال ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) دون أن يقول : اجتنبوا الغيبة . لقصد التوطئة للتمثيل الوارد في قوله ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) لأنه لما كان ذلك التمثيل مشتملا على جانب فاعل الاغتياب ومفعوله مهد له بما يدل على ذاتين لأن ذلك يزيد التمثيل وضوحا .
والاستفهام في ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) تقريري لتحقق أن كل أحد يقر بأنه لا يحب ذلك ولذلك أجيب الاستفهام بقوله ( فكرهتموه ) .
وإنما لم يرد الاستفهام على نفي محبة ذلك بأن يقال : ألا يحب أحدكم كما هو غالب الاستفهام التقريري إشارة إلى تحقق الإقرار المقرر عليه بحيث يترك للمقرر مجالا لعدم الإقرار ومع ذلك لا يسعه إلا الإقرار . مثلت الغيبة بأكل لحم الأخ الميت وهو يستلزم تمثيل المولوع بها بمحبة أكل لحم الأخ الميت والتمثيل مقصود منه استفظاع الممثل وتشويهه لإفادة الإغلاظ على المغتابين لأن الغيبة متفشية في الناس وخاصة في أيام الجاهلية .
فشبهت حالة اغتياب المسلم من هو أخوه في الإسلام وهو غائب بحالة أكل لحم أخيه وهو ميت لا يدافع عن نفسه وهذا التمثيل للهيئة قابل للتفريق بأن يشبه الذي اغتاب بآكل لحم ويشبه الذي اغتيب بأخ وتشبه غيبته بالموت .
والفاء في قوله ( فكرهتموه ) فاء الفصيحة وضمير الغائب عائد إلى ( أحدكم ) أو يعود إلى ( لحم ) .
والكراهة هنا : الاشمئزاز والتقذر . والتقدير : إن وقع هذا أو إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه .
وفاء الفصيحة تفيد الإلزام بما بعدها كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى ( فقد كذبوكم بما تقولون ) في سورة الفرقان أي تدل على أن لا مناص للمواجه بها من التزام مدلول جواب شرطها المحذوف .
والمعنى : فتعين إقراركم بما سئلتم عنه من الممثل به " إذ لا يستطاع جحده " تحققت كراهتكم له وتقذركم منه فليتحقق أن تكرهوا نظيره الممثل وهو الغيبة فكأنه قيل : فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به .
وفي هذا الكلام مبالغات : منها الاستفهام التقريري الذي لا يقع إلا على أمر مسلم عند المخاطب فجعلك للشيء في حيز الاستفهام التقريري يقتضي أنك تدعي أنه لا ينكره المخاطب .
ومنها جعل ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولا لفعل المحبة للإشعار بتفظيع حالة ما شبه به وحالة من ارتضاه لنفسه فلذلك لم يقل : أيتحمل أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا بل قال ( أيحب أحدكم ) .
ومنها إسناد الفعل إلى ( أحد ) للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك .
ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا