وجملة ( إن بعض الظن إثم ) استئناف بياني لأن قوله ( اجتنبوا كثيرا من الظن ) يستوقف السامع ليتطلب البيان فأعلموا أن بعض الظن جرم وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي اليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة أو ليسألوا أهل العلم على أن هذا البيان الاستئنافي يقتصر على التخويف من الوقوع في الإثم . وليس هذا البيان توضيحا لأنواع الكثير من الظن المأمور باجتنابه لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وترك التفصيل لأن في إبهامه بعثا على مزيد الاحتياط .
ومعنى كونه إثما أنه : إما أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدر الظان أن ظنه كاذب ثم لينظر بعد في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم وقد قال العلماء : إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز .
وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدر أن ظنه كان مخطئا يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به فإن كان اعتقادا في صفات الله فقد افترى على الله وإن كان اعتقادا في أحوال الناس فقد خسر الانتفاع بمن ظنه ضارا أو الاهتداء بمن ظنه ضالا أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلا ونحو ذلك .
A E ووراء ذلك فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس قد يصير علما راسخا في النفس فتترتب عليه الآثار بسهولة فتصادف من هو حقيق بضدها كما تقدم في قوله تعالى ( أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) .
والاجتناب : افتعال من جنبه وأجنبه إذا أبعده أي جعله جانبا آخر وفعله يعدى إلى مفعولين يقال : جنبه الشر قال تعالى ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) . ومطاوعه اجتنب أي ابتعد ولم يسمع له فعل أمر إلا بصيغة الافتعال .
ومعنى الأمر باجتناب كثير من الظن الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطرارا عن غير اختيار فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك .
وهذا التحذير يراد منه مقاومة الظنون السيئة بما هو معيارها من الأمارات الصحيحة . وفي الحديث " إذا ظننتم فلا تحققوا " .
على أن الظن الحسن الذي لا مستند له غير محمود لأنه قد يوقع فيما لا يجد ضره من اغترار في محل الحذر ومن اقتداء بمن ليس أهلا للتأسي . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لأم عطية حين مات في بيتها عثمان بن مظعون وقال " رحمة الله عليك أبا السايب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله " وما يدريك أن الله أكرمه . فقالت : يا رسول الله ومن يكرمه الله ؟ فقال : أما هو فقد جاءه اليقين وإني أرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي . فقالت أم عطية : والله لا أزكي بعده أحدا " .
وقد علم من قوله ( كثيرا من الظن ) وتبيينه بأن بعض الظن إثم أن بعضا من الظن ليس إثما وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم لأن ( كثيرا ) وصف فمفهوم المخالفة منه يدل على أن كثيرا من الظن لم نؤمر باجتنابه وهو الذي يبينه ( إن بعض الظن إثم ) أي أن بعض الظن ليس إثما فعلى المسلم أن يكون معياره في تمييز أحد الظنيين من الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه علماء الأمة وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة فمنه ظن يجب اتباعه كالحذر من مكائد العدو في الحرب وكالظن المستند إلى الدليل الحاصل من دلالة الأدلة الشرعية فإن أكثر التفريعات الشرعية حاصلة من الظن المستند إلى الأدلة . وقد فتح مفهوم هذه الآية باب العمل بالظن غير الإثم إلا أنها لا تقوم حجة إلا على الذين يرون العمل بمفهوم المخالفة وهو أرجح الأقوال فإن معظم دلالات اللغة العربية على المفاهيم كما تقرر في أصول الفقه .
وأما الظن الذي هو فهم الإنسان وزكانته فذلك خاطر في نفسه وهو أدرى فمعتاده منه من إصابة أو ضدها قال أوس بن حجر : .
الألمعي الذي يظن بك الظ ... ن كأن قد رأى وقد سمعا ( ولا تجسسوا )