وإنما قال ( ولا تلمزوا ) بصيغة الفعل الواقع من جانب واحد وقال ( ولا تنابزوا ) بصيغة الفعل الواقع من جانبين لأن اللمز قليل الحصول فهو كثير في الجاهلية في قبائل كثيرة منهم بنو سلمة بالمدينة قاله ابن عطية .
( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون [ 11 ] ) تذييل للمنهيات المتقدمة وهو تعريض قوي بأن ما نهوا عنه فسوق وظلم إذ لا مناسبة بين مدلول هذه الجملة وبين الجمل التي قبلها لولا معنى التعريض بأن ذلك فسوق وذلك مذموم ومعاقب عليه فدل قوله ( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) على أن ما نهوا عنه مذموم لأنه فسوق يعاقب عليه ولا تزيله إلا التوبة فوقع إيجاز بحذف جملتين في الكلام اكتفاء بما دل عليه التذييل وهذا دال على أن اللمز والتنابز معصيتان لأنهما فسوق . وفي الحديث " سباب المسلم فسوق " .
ولفظ " الاسم " هنا مطلق على الذكر أي التسمية كما يقال : طار اسمه في الناس بالجود أو باللؤم . والمعنى : بئس الذكر أن يذكر أحد بالفسوق بعد أن وصف بالإيمان .
A E وإيثار لفظ الاسم هنا من الرشاقة بمكان لأن السياق تحذير من ذكر الناس بالأسماء الذميمة إذ الألقاب أسماء فكان اختيار لفظ الاسم للفسوق مشاكلة معنوية .
ومعنى البعدية في قوله ( بعد الإيمان ) : بعد الاتصاف بالإيمان أي أن الإيمان لا يناسبه الفسوق لأن المعاصي من شأن أهل الشرك الذين لا يزعهم عن الفسوق وازع وهذا كقول جميلة بنت أبي حين شكت للنبي صلى الله عليه وسلم أنها تكره زوجها ثابت بن قيس وجاءت تطلب فراقه : " لا أعيب على ثابت في دين ولا في خلق ولكني أكره الكفر بعد الإسلام " تريد التعريض بخشية الزنا " وإني لا أطيقه بغضا " .
وإذ كان كل من السخرية واللمز والتنابز معاصي فقد وجبت التوبة منها فمن لم يتب فهو ظالم : لأنه ظلم الناس بالاعتداء عليهم وظلم نفسه بأن رضي لها عقاب الآخرة مع التمكن من الإقلاع عن ذلك فكان ظلمه شديدا جدا . فلذلك جيء له بصيغة قصر الظالمين عليهم كأنه لا ظالم غيرهم لعدم الاعتداد بالظالمين الآخرين في مقابلة هؤلاء على سبيل المبالغة ليزدجروا .
والتوبة واجبة من كل ذنب وهذه الذنوب المذكورة مراتب وإدمان الصغائر كبيرة .
وتوسيط اسم الإشارة لزيادة تمييزهم تفظيعا لحالهم وللتنبيه بل إنهم استحقوا قصر الظلم عليهم لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة .
( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ) أعيد النداء خامس مرة لاختلاف الغرض والاهتمام به . وذلك أن المنهيات المذكورة بعد هذا النداء من جنس المعاملات السيئة الخفية التي لا يتفطن لها من عومل بها فلا يدفعها فما يزيلها من نفس من عامله بها .
ففي قوله تعالى ( اجتنبوا كثيرا من الظن ) تأديب عظيم يبطل ما كان فاشيا في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد والاغتيالات والطعن في الأنساب والمبادأة بالقتال حذرا من اعتداء مظنون ظنا باطلا كما قالوا " خذ اللص قبل أن يأخذك " .
وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة قال تعالى ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) وقال ( وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم فما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ) وقال ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) ثم قال ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أتتم إلا تخرصون ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) .
ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق .
والمراد ب ( الظن ) هنا : الظن المتعلق بأحوال الناس وحذف المتعلق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم