وتنكير ( قوم ) في الموضعين لإفادة الشياع لئلا يتوهم نهي قوم معينين سخروا من قوم معينين .
وإنما أسند ( يسخر ) إلى ( قوم ) دون أن يقول : لا يسخر بعضكم من بعض كما قال ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) للنهي عما كان شائعا بين العرب من سخرية القبائل بعضها من بعض فوجه النهي إلى الأقوام . ولهذا أيضا لم يقل : لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة .
ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب . وهذا النهي صريح في التحريم .
وخص النساء بالذكر مع أن القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام كما يشمل لفظ ( المؤمنين ) المؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع فأن أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به دفعا لتوهم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصلا في النساء فلأجل دفع التوهم الناشئ من هذين السيئين على نحو ما تقدم في قوله من آية القصاص ( والأنثى بالأنثى ) في سورة البقرة .
A E وجملة ( عسى أن يكونوا خيرا منهم ) مستأنفة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين تفيد المبالغة في النهي عن السخرية بذكر حالة يكثر وجودها في المسخورية فتكون سخرية الساخر أفظع من الساخر ولأنه يثير انفعال الحياء في نفس الساخرة بينه وبين نفسه . وليست جملة ( عسى أن يكونوا خيرا منهم ) صفة لقوم من قوله ( من قوم ) وإلا لصار النهي عن السخرية خاصا بما إذا كان المسخور به مظنة أنه خير من الساخر وكذلك القول في جملة ( عسى أن يكن خيرا منهن ) وليست صفة ل ( نساء ) من قوله ( من نساء ) .
وتشابه الضميرين في قوله ( أن يكونوا خيرا منهم ) وفي قوله ( أن يكن خيرا منهن ) لا لبس فيه لظهور مرجع كل ضمير فهو كالضمائر في قوله تعالى ( وعمروها أكثر مما عمروها ) في سورة الروم وقول عباس بن مرداس : .
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا ( ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ) اللمز : ذكر ما يعده الذاكر عيبا لأحد مواجهة فهو المباشرة بالمكروه . فإن كان بحق فهو وقاحة واعتداء وإن كان باطلا فهو وقاحة وكذب وكان شائعا بين العرب في جاهليتهم قال تعالى ( ويل لكل همزة لمزة ) يعني نفرا من المشركين كان دأبهم لمز رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفي يعرف منه المواجه به أنه يذم أو يتوعد أو يتنقص باحتمالات كثيرة وهو غير النبز وغير الغيبة .
وللمفسرين وكتب اللغة اضطراب في شرح معنى اللمز وهذا الذي ذكرته هو المنخول من ذلك .
ومعنى ( لا تلمزوا أنفسكم ) لا يلمز بعضكم بعضا فنزل البعض الملموز نفسا للامزه لتقرر معنى الأخوة وقد تقدم نظيره عند قوله ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) في سورة البقرة .
والتنابز : نبز بعضهم بعضا والنبز بسكون الباء : ذكر النيز بتحريك الباء وهو اللقب السوء كقولهم : أنف الناقة وقرقور وبطة وكان غالب الألقاب في الجاهلية نبزا . قال بعض الفزاريين : .
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوأة اللقب روي برفع " السوأة اللقب " فيكون جريا على الأغلب عندهم في اللقب وأنه سوأة . ورواه ديوان الحماسة بنصب " السوأة " على أن الواو واو المعية . وروي " بالسوأة اللقبا " أي لا ألقبه لقبا ملابسا للسوءة فيكون أراد تجنب بعض اللقب وهو ما يدل على سوء . ورواية الرفع أرجح وهي التي يقتضيها استشهاد سيبويه ببيت بعده في باب ظن . ولعل ما وقع في ديوان الحماسة من تغييرات أبي تمام التي نسب إليه بعضها في بعض أبيات الحماسة لأنه رأى النصب أصح معنى .
فالمراد ب ( الألقاب ) في الآية الألقاب المكروهة بقرينة ( ولا تنابزوا ) .
واللقب ما أشعر بخسة أو شرف سواء كان ملقبا به صاحبه أم اخترعه له النابز له .
وقد خصص النهي في الآية ب ( الألقاب ) التي لم يتقادم عهدها حتى صارت كالأسماء لأصحابها وتنوسي منها قصد الذم والسب خص بما وقع في كثير من الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق ذو اليدين " وقوله لأبي هريرة " يا أبا هر " ولقب شاول ملك إسرائيل في القرآن طالوت وقول المحدثين " الأعرج " لعبد الرحمان بن هرمز " والأعمش " لسليمان من مهران