ولما كان المتعارف بين الناس أنه إذا نشبت مشاقة بين الأخوين لزم بقية الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتها مشيا بالصلح بينهما فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شقاق بين طائفتين منهم أن ينهض سائرهم بالسعي بالصلح بينهما وبث السفراء إلى أن يرقعوا ما وهي ويرفعوا ما أصاب ودهى .
وتفريع الأمر بالإصلاح بين الأخوين على تحقيق كون المؤمنين إخوة تأكيد لما دلت عليه ( إنما ) من التعليل فصار الأمر بالإصلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله ( فأصلحوا بينهما ) وقوله ( فأصلحوا بينهما بالعدل ) قد أردف بالتعليل فحصل تقريره ثم عقب بالتفريع فزاده تقريرا .
وقد حصل من هذا النظم ما يشبه الدعوى وهي كمطلوب القياس ثم ما يشبه الاستدلال بالقياس ثم ما يشبه النتيجة .
ولما تقرر معنى الأخوة بين المؤمنين كمال التقرر عدل عن أن يقول : فأصلحوا بين الطائفتين إلى قوله ( بين أخويكم ) فهو وصف جديد نشأ عن قوله ( إنما المؤمنون إخوة ) فتعين إطلاقه على الطائفتين فليس هذا من وضع الظاهر موضع الضمير فتأمل .
وأوثرت صيغة التثنية في قوله ( أخويكم ) مراعاة لكون الكلام جار على طائفتين من المؤمنين فجعلت كل طائفة كالأخ للأخرى .
وقرأ الجمهور ( بين أخويكم ) بلفظ تثنية الأخ أي بين الطائفة والأخرى مراعاة لجريان الحديث على اقتتال طائفتين .
وقرأ الجمهور ( بين أخويكم ) بلفظ تثنية الأخ على تشبيه كل طائفة بأخ .
A E وقرأ يعقوب ( فأصلحوا بين إخوتكم ) بتاء فوقية بعد الواو على أنه جمع أخ باعتبار كل فرد من الطائفتين كالأخ .
والمخاطب بقوله ( واتقوا الله لعلكم ترحمون ) جميع المؤمنين فيشمل الطائفتين الباغية والمبغي عليها ويشمل غيرهما ممن أمروا بالإصلاح بينهما ومقاتلة الباغية فتقوى كل بالوقوف عند ما أمر الله به كلا مما يخصه وهذا يشبه التذييل .
ومعنى ( لعلكم ترحمون ) : ترجى لكم الرحمة من الله فتجري أحوالكم على استقامة وصلاح . وإنما اختيرت الرحمة لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين وشأن تعامل الإخوة الرحمة فيكون الجزاء عليها من جنسها .
( يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ) لما اقتضت الأخوة أن تحسن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشيها في الجاهلية لهذه المناسبة وهذا نداء رابع أريد بما بعده أمر المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم .
وعن الضحاك : أن المقصود بنو تميم إذ سخروا من بلال وعمار وصهيب فيكون لنزول الآية سبب متعلق بالسبب الذي نزلت السورة لأجله وهذا من السخرية المنهي عنها .
وروى الواحدي عن ابن عباس أن سبب نزولها : " أن ثابت بن قيس بن شماس كان في سمعه وقر وكان إذا أتى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أوسعوا له ليجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوما يتخطى رقاب الناس فقال رجل : قد أصبت مجلسا فاجلس . فقال ثابت : من هذا ؟ فقال الرجل : أنا فلان . فقال ثابت : ابن فلانة وذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية فاستحيا الرجل . فأنزل الله هذه الآية " فهذا من اللمز .
وروي عن عكرمة : " أنها نزلت لما عيرت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالقصر " وهذا من السخرية .
وقيل : عير بعضهن صفية بأنها يهودية وهذا من اللمز في عرفهم .
وافتتحت هذه الآيات بإعادة النداء للاهتمام بالغرض فيكون مستقلا غير تابع حسبما تقدم من كلام الفخر . وقد تعرضت الآيات الواقعة عقب هذا النداء لصنف مهم من معاملة المسلمين بعضهم لبعض مما فشا في الناس من عهد الجاهلية التساهل فيها . وهي من إساءة الأقوال ويقتضي النهي عنها الأمر بأضدادها . وتلك المنهيات هي السخرية واللمز والنبز .
والسخر ويقال السخرية : الاستهزاء وتقدم في قوله ( فيسخرون منهم ) في سورة براءة وتقدم وجه تعديته ب ( من ) .
والقوم : اسم جمع : جماعة الرجال خاصة دون النساء قال زهير : .
وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء ؟