ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله ( وأقسطوا ) أمرا عاما تذييلا للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي ثم قال ( فإن فاءت فأصلحوا بينهما ) . وهذا إصلاح ثان بعد الإصلاح المأمور به ابتداء . ومعناه : أن الفئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فأوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخوة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما .
قال أبو بكر بن العربي : ومن العدل في صلحهم أن لا يطالبوا بما جرى بينهم مدة القتال من دم ولا مال فإنه تلف على تأويل وفي طلبهم به تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي وهذا أصل في المصلحة ا ه .
ثم قال : لا ضمان عليهم في نفس ولا مال عندنا " المالكية " . وقال أبو حنيفة يضمنون . وللشافعي فيه قولان . فأما ما كان قائما رد بعينه . وانظر هل ينطبق كلام ابن العربي على نوعي الباغية أو هو خاص بالباغية على الخليفة وهو الأظهر .
فأما حكم تصرف الجيش المقاتل للبغاة فكأحوال الجهاد إلا أنه لا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ولا تسبى ذراريهم ولا تغنم أموالهم ولا تسترق أسراهم .
A E وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدى عليها والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة فينبغي أن يؤخذ من مجموع أقوالهم ما يرى أولو الأمر المصلحة في الحمل عليها جريا على قوله تعالى ( وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) .
( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [ 10 ] ) تعليل لإقامة الإصلاح بين المؤمنين إذا استشرى الحال بينهم فالجملة موقعها موقع العلة وقد بني هذا التعليل على اعتبار حال المسلمين بعضهم مع بعض كحال الإخوة .
وجيء بصيغة القصر المفيدة لحصر حالهم في حال الإخوة مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين فهو قصر ادعائي أو هو قصر إضافي للرد على أصحاب الحالة المفروضة الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين وأخبر عنهم بأنهم إخوة مجازا على وجه التشبيه البليغ زيادة لتقرير معنى الأخوة بينهم حتى لا يحق أن يقرن بحرف التشبيه المشعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخوة .
وهذه الآية فيها دلالة قوية على تقرر وجوب الأخوة بين المسلمين لأن شأن ( إنما ) أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزل منزلة ذلك كما قال الشيخ في دلائل الإعجاز في الفصل الثاني عشر وساق عليه شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب فلذلك كان قوله تعالى ( إنما المؤمنون إخوة ) مفيد أن معنى الأخوة بينهم معلوم مقرر . وقد تقرر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى ( يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) في سورة الحشر وهي سابقة في النزول على هذه السورة فإنها معدودة الثانية والمائة وسورة الحجرات معدودة الثامنة والمائة من السور . وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حين وروده المدينة وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين . وفي الحديث " لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام أفضل " .
وفي باب تزويج الصغار من الكبار من صحيح البخاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة من أبي بكر . فقال له أبو بكر : إنما أنا أخوك فقال : أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال " .
وفي حديث صحيح مسلم " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " .
وفي الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " أي يحب للمسلم ما يحب لنفسه .
فأشارت جملة ( إنما المؤمنون إخوة ) إلى وجه وجوب الإصلاح بين الطائفتين المتباغيتين منهم ببيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من النسب الموحى ما لا ينقص عن نسب الأخوة الجسدية على نحو قول عمر بن الخطاب للمرأة التي شكت إليه حاجة أولادها وقالت : أنا بنت خفاف بن أيماء وقد شهد أبي مع رسول الله الحديبية فقال عمر " مرحبا بنسب قريب "