ويحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تخش من عصيانه فتنة لأن ضر الفتنة أشد من شد الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة .
وقد كان تحقيق معنى البغي وصوره غير مضبوط في صدر الإسلام وإنما ضبطه العلماء بعد وقعة الجمل ولم تطل ثم بعد وقعة صفين وقد كان القتال فيها بين فئتين ولم يكن الخارجون عن علي Bه من الذين بايعوه بالخلافة بل كانوا شرطوا لمبايعتهم إياه أخذ القود من قتلة عثمان منهم فكان اقتناع أصحاب معاوية مجالا للاجتهاد بينهم وقد دارت بينهم كتب فيها حجج الفريقين ولا يعلم الثابت منها والمكذوب إذ كان المؤرخون أصحاب أهواء مختلفة . وقال ابن العربي : كان طلحة والزبير يريان البداءة بقتل قتلة عثمان أولى إلا أن العلماء حققوا بعد ذلك أن البغي في جانب أصحاب معاوية لأن البيعة بالخلافة لا تقبل التقييد بشرط .
A E وقد اعترف الجميع بأن معاوية وأصحابه كانوا مدافعين عن نظر اجتهادي مخطئ وكان الواجب يقضي على جماعة من المسلمين الدعاء إلى الصلح بين الفريقين حسب أمر القرآن وجوب الكفاية فقد قيل : إن ذلك وقع التداعي إليه ولم يتم لانتقاض الحرورية على أمر التحكيم فقالوا : لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال .
وقيل : كيدت مكيدة بين الحكمين والإخبار في ذلك مضطربة على اختلاف المتصدين لحكاية القضية من المؤرخين أصحاب الأهواء . والله أعلم بالضمائر .
وسئل الحسن البصري عن القتال بين الصحابة فقال : شهد أصحاب محمد وغبنا وعلموا وجهلنا . وقال المحاسبي : تعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا .
والأمر في قوله ( فقاتلوا التي تبغي ) للوجوب لأن هذا حكم بين الخصمين والقضاء بالحق واجب لأنه لحفظ حق المحق ولان ترك قتال الباغية يجر إلى استرسالها في البغي وإضاعة حقوق المبغي عليها في الأنفس والأحوال والأغراض والله لا يحب الفساد ولأن ذلك يجرئ غيرها على أن تأتي مثل صنيعها فمقاتلها زجر لغيرها . وهو وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشا يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأئمة والخلفاء . فإذا اختل أمر الإمامة فليتول قتال البغاة السواد الأعظم من الأمة وعلماؤها . فهذا الوجوب مطلق في الأحوال تقيده الأدلة الدالة على عدم المصير إليه إذا علم أن قتالها يجر إلى فتنة أشد من بغيها .
وقد تلتبس الباغية من الطائفتين المتقاتلتين فإن أسباب التقاتل قد تتولد من أمور لا يؤبه بها في أول الأمر ثم تثور الثائرة ويتجالد الفريقان فلا يضبط أمر الباغي منهما فالإصلاح بينهما يزيل اللبس فإن امتنعت إحداهما تعين البغي في جانبها لأن للإمام والقاضي أن يجبر على الصلح إذا خشي الفتنة ورأى بوارقها وذلك بعد أن تبين لكلتا الطائفتين شبهتها إن كانت لها شبهة وتزال بالحجة الواضحة والبراهين القاطعة ومن يأب منهما فهو أعق وأظلم .
وجعل الفيء إلى أمر الله غاية للمقاتلة أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم أي حتى تقلع عن بغيها . وأتبع مفهوم الغاية ببيان ما تعامل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله ( فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ) والباء للملابسة والمجرور حال من ضمير ( اصلحوا ) .
والعدل : هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف وأن لا يضر بإحدى الطائفتين فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين قد تتفاوت تفاوتا شديدا فتجب مراعاة التعديل .
وقيد الإصلاح المأمور به ثانيا بقيد أن تفيء الباغية بقيد ( بالعدل ) ولم يقيد الإصلاح المأمور به وهذا القيد يقيد به أيضا الإصلاح المأمور به أولا لأن القيد من شأنه أن يعود إليه لاتحاد سبب المطلق والمقيد أي يجب العدل في صورة الإصلاح فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف