وكان المسلمون في عصر النبوة وما بعده يقدرون تارة بعض الأوقات بمقدار ما يقرأ القارئ عددا من الآيات كما ورد في حديث سحور النبي A أنه كان بينه وبين طلوع الفجر مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية .
قال أبو بكر ابن العربي " وتحديد الآية من معضلات القرآن فمن آياته طويل وقصير ومنه ما ينقطع ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام " وقال الزمخشري " الآيات علم توقيفي " .
وأنا أقول لا يبعد أن يكون تعيين مقدار الآية تبعا لانتهاء نزولها وأمارته وقوع الفاصلة .
والذي استخلصته أن الفواصل هي الكلمات التي تتماثل في أواخر حروفها أو تتقارب مع تماثل أو تقارب صيغ النطق بها وتكرر في السورة تكررا يؤذن بأن تماثلها أو تقاربها مقصود من النظم في آيات كثيرة متماثلة تكثر وتقل وأكثرها قريب من الأسجاع في الكلام المسجوع .
والعبرة فيها بتماثل صيغ الكلمات من حركات وسكون وهي أكثر شبها بالتزام ما لا يلزم في القوافي . وأكثرها جار على أسلوب الأسجاع .
والذي استخلصته أيضا أن تلك الفواصل كلها منتهى آيات ولو كان الكلام الذي تقع فيه لم يتم فيه الغرض المسوق إليه وأنه إذا انتهى الغرض المقصود من الكلام ولم تقع عند انتهائه فاصلة لا يكون منتهى الكلام نهاية آية إلا نادرا كقوله تعالى ( ص والقرآن ذي الذكر ) فهذا المقدار عد آية وهو لم ينته بفاصلة ومثله نادر . فإن فواصل تلك الآيات الواقعة في أول السورة أقيمت على حرف مفتوح بعده ألف مد بعدها حرف مثل : شقاق مناص كذاب عجاب .
وفواصل بنيت على حرف مضموم مشبع بواو . أو على حرف مكسور مشبع بياء ساكنة وبعد ذلك حرف مثل " أنتم عنه معرضون اذ يستمعون نذير مبين من طين " .
فلو انتهى الغرض الذي سيق له الكلام وكانت فاصلة تأتي بعد انتهاء الكلام تكون الآية غير منتهية ولو طالت كقوله تعالى ( قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك ) إلى قوله ( وخر راكعا وأناب ) فهذه الجمل كلها عدت آية واحدة .
واعلم أن هذه الفواصل من جملة المقصود من الإعجاز لأنها ترجع إلى محسنات الكلام وهي من جانب فصاحة الكلام فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل لتقع في الأسماع فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل كما تتأثر بالقوافي في الشعر وبالأسجاع في الكلام المسجوع . فإن قوله تعالى ( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون " آية " في الحميم ثم في النار يسجرون " آية " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون " آية " من دون الله ) إلى آخر الآيات . فقوله ( في الحميم ) متصل بقوله ( يسحبون ) وقوله و ( من دون الله ) متصل بقوله ( تشركون ) . وينبغي الوقف عند نهاية كل آية منها .
وقوله تعالى ( واشهدوا أني بريء مما تشركون " آية " . وقوله ( من دونه ) ابتداء الآية بعدها في سورة هود .
ألا ترى أن من الإضاعة لدقائق الشعر أن يلقيه ملقيه على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه فإن ذلك إضاعة لجهود الشعراء وتغطية على محاسن الشعر وإلحاق للشعر بالنثر .
وأن إلفاء السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة .
ومن السذاجة أن ينصرف ملقي الكلام عن محافظة هذه الدقائق فيكون مضيعا لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته .
والعلة بأنه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام فضول فإن البيان وظيفة ملقي درس لا وظيفة منشد الشعر ولو كان هو الشاعر نفسه .
وفي الإتقان عن أبي عمرو قال بعضهم : الوقف على رؤوس الآي سنة . وفيه عن البيهقي في شعب الإيمان : الفضل الوقف على رؤوس الآيات وان تعلقت بما بعدها اتباعا لهدي رسول الله A وسنته وفي سنن أبي داود عن أم سلمة أن النبي A كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول : " بسم الله الرحمن الرحيم " . ثم يقف . ( الحمد لله رب العالمين ) . ثم يقف ( الرحمن الرحيم ) ثم يقف .
على أن وراء هذا وجوب اتباع المأثور من تحديد الآي كما قال ابن العربي والزمخشري ولكن ذلك لا يصدنا عن محاولة ضوابط تنفع الناظر وإن شذ عنها ما شذ .
ألا ترى أن بعض الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور قد عد بعضها آيات مثل . آلم . آلمص . كهيعص . عسق . طسم . يس . حم . طه .
ولم تعد ألر . ألمر . طس . ص . ق . ن . آيات .
A E