وفي الصحيحين عن أنس ابن مالك " أن الآية نزلت في قصة مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبال الحمار فقال عبد الله بن أبي : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه . فقال له عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره لأطيب من مسكك فاستبا وتجالدا وجاء قوماهما الأوس والخزرج فتجالدوا بالتعال والسعف فرجع إليهم رسول الله فأصلح بينهم... " فنزلت هذه الآية . وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد : وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة .
ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة . وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة وأن انس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله " فبلغنا أن نزلت فيهم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " . اللهم أن تكون هذه الآية ألحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة .
A E وعن قتادة والسدي : أنها نزلت في فتنة بين الأوس والخزرج بسبب خصومة بين رجل وامرأته أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج انتصر لكل منهما قومه حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والعصي فنزلت الآية فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهما وهذا أظهر من الرواية الأولى فكانت حكما عاما نزل في سبب خاص .
و ( إن ) حرف شرط يخلص الماضي للاستقبال فيكون في قوة المضارع . وارتفع ( طائفتان ) بفعل مقدر يفسره قوله ( اقتتلوا ) للاهتمام بالفاعل . وإنما عدل عن المضارع بعد كونه الأليق بالشرط لأنه لما أريد تقديم الفاعل على فعله للاهتمام بالمسند إليه جعل الفعل ماضيا على طريقة الكلام الفصيح في مثله مما أوليت فيه ( إن ) الشرطية الاسم نحو ( وإن أحد من المشركين استجارك ) ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا ) . قال الرضي " وحق الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي ( ان ) أن يكون ماضيا وقد يكون مضارعا على الشذوذ وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم وبين معموله " .
ويعود ضمير ( اقتتلوا ) على ( طائفتان ) باعتبار المعنى لأن طائفة ذات جمع والطائفة الجماعة . وتقدم عند قوله تعالى ( فلتقم طائفة منهم معك ) في سورة النساء .
والوجه أن يكون فعل ( اقتتلوا ) مستعملا في إرادة الوقوع مثل ( يا أيها الذين آمنوا قمتم إلى الصلاة ) ومثل ( والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ) أي يريدون العود لأن الأمر بالإصلاح بينهما واجب قبل الشروع في الاقتتال وذلك عند ظهور بوادره وهو أولى من انتظار وقوع الاقتتال ليمكن تدارك الخطب قبل وقوعه على معنى قوله تعالى ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا ) .
وبذلك يظهر وجه تفريع قوله ( فإن بغت إحداهما على الأخرى ) على جملة ( اقتتلوا ) أي فإن ابتدأت إحدى الطائفتين قتال الأخرى ولم تنصع إلى الإصلاح فقاتلوا الباغية .
والبغي : الظلم والاعتداء على حق الغير وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي وهو غير معناه الفقهي ف ( التي تبغي ) هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل لأن بغيها يحمل الطائفة المبغي عليها أن تدافع عن حقها .
وإنما جعل حكم قتال الباغية أن تكون طائفة لأن الجماعة يعسر الأخذ على أيدي ظلمهم بأفراد من الناس وأعوان الشرطة فتعين أن يكون كفهم عن البغي بالجيش والسلاح .
وهذا في التقاتل بين الجماعات والقبائل فأما خروج فئة عن جماعة المسلمين فهو أشد وليس هو مورد هذه الآية ولكنها أصل له في التشريع .
وقد بغى أهل الردة على جماعة المسلمين بغيا بغير قتال فقاتلهم أبو بكر Bه وبغى بغاة أهل مصر على عثمان Bه فكانوا بغاة على جماعة المؤمنين فأبى عثمان قتالهم وكره أن يكون سببا في إراقة دماء المسلمين اجتهادا منه فوجب على المسلمين طاعته لأنه ولي الأمر ولم ينفوا عن الثوار حكم البغي